علي أبو حسين
ما أصعب الكتابة عن الأحباب، خاصة إن كانوا من المبدعين.. هكذا حالي مع الراحل المقيم، الحبيب ياسر عوض. لا أقدر الآن على استرجاع الذكريات؛ فهذا جرح سيطول زمن اندماله. فترة طويلة لم ألتقه بعد أن غادرنا العراق؛ هو عاد إلى السودان، وأنا ركبت زورق الأوديسة المكسور الذي رسا بي في بلاد باردة الأحاسيس. أصرّ أن يأتي لرؤيتي والسلام عليّ حين علم بتواجدي في السودان لبضعة أيام قبل أن أعود إلى ما وراء البحار والمحيطات. كان ذلك في خريف 2022. تواصلنا بالهاتف، لكنه أصرّ وقال لي: “لازم أجي أشوفك يا أبو حسين” لم أكن أعلم أنه اللقاء الأخير. كانت الشوارع غارقة بمياه الأمطار وبرك الطين في ذلك الخريف. أصرّ أن يصلني في البيت؛ وحين تعطّلت به سيارة الشغل تركها، وركب ركشة قربته من فريقنا، وأصرّ أن يخوض في الطين بينما أصف له البيت عبر الهاتف، إلى أن تمكن من الوصول. كان الوقت صباحًا قبل أن يذهب إلى عمله. أصررنا عليه أن يشرب معنا الشاي، ومعه كثير من الانتقادات لـ”قناة الخرطوم”، فتقبلها بضحكاته الساحرة، ووعد بتحسين الأداء. كان وقت الزيارة قصيرًا، لكنها كانت لحظات غنية بالأحاسيس ومشاعر الأخوة والمحبة والروعة. حين ترى أخاك يصرّ أن يأتي لرؤيتك رغم كل الظروف، ويصرّ أن يسلم عليك وحدك بعد أكثر من 25 سنة.. يا عظَمة وفائك يا ياسر! نحن أصلًا بيناتنا محبة كبيرة، محبة عميقة. ورغم أننا لم نتعارف جيدًا في مدرسة مدني الأهلية (ب) المتوسطة، إلا أني ما زلت أسمع صوته وهو يقدم الجمعية الثقافية وبدايات إبداعه. كان مشهورًا جدًا، وكان وسيمًا جميلًا، نظيفًا لطيفًا راقيًا. وهكذا كان حين رافقناه لاحقًا في مدني “المؤتمر العليا”، ثم في العراق. نمت بيننا محبة واحترام عميقان زادها وهجًا التقاء المفاهيم والقيم والمبادئ والهدف الواحد والطريق الواحد. كان رجلًا له أدوار ومواقف عظيمة سلطت الضوء على جوهر إنسانيته: إحساسه المرهف بالآخرين، ومحبة الإنسان كإنسان. يتجلى ذلك في حزنه العميق إذا تعرض أي شخص، أيًا كان، لمهانة أو ظلم أو ظرف يكسر النفس. حكيتُ لصديقنا المشترك، د.ماجد أحمد عبد الله، أن الحبيب ياسر دعاه يومًا لتناول الفطور معه، وذلك أيام كان يعمل في “قناة الشروق”. وعندما وصل ماجد إلى المكان، لم يجد المرحوم ياسر في البداية، فقد اعتاد أن يفطر عند امرأة تبيع الفطور في الشارع قرب القناة. لكن بعد أن تلفت قلقًا، رآه جالسًا واضعًا رأسه بين يديه. وحين اقترب منه، سمعه يبكي وينتحب بحرقة ووجع. سأله: “ماذا حدث”؟ فأجابه بصوت مخنوق، وعيناه محمرّتان: “اقترب مني على استحياء رجل يلبس جلبابًا أبيض نظيفًا وعمّة وشال، وقال لي بصوت خافت: يا ولدي.. عدِمنا التعريفة، بقينا متسوّلين.. ممكن ألقى عندك حق الفطور؟ ياسر الرهيف لم يتحمل هذا الموقف؛ فاجهش في بكاء مر، وصُدم حدّ الذهول. ارقد في سلام يا حبيبنا.. وخذنا معك إلى جنّات الخلد.
#ملف_الهدف_الثقافي #ياسر_عوض #علي_أبو_حسين #رثاء #وفاء #صداقة_العمر #إنسانية #ود_مدني

Leave a Reply