العَائِدُ إِلَى جِهَةِ الجَمَالِ

صحيفة الهدف

علاء سنهوري
#ملف_الهدف_الثقافي
هكذا ومُنذُ أربعةٍ وعِشرونَ عامًا قَضَينَاهَا في المَحَبَّاتِ والمَعرِفَةِ وتَبَادُلِ الأفكَارِ والخِبْرَاتِ، عَاشَ مَعَنَا بين قَوسَينِ هُمَا: جِيمُ الجَمَالِ في ابتِسَامَتِهِ، وجِيمُ الجَسَارَةِ في نَظرَتِهِ الثَّاقِبَةِ التي يَزيدُهَا مَا يَعقِدُهُ بين حَاجِبَيْهِ عَزْمًا. قَبلَ أَن أَلتَقِيَهُ أدمَنتُ مِلَفَّهُ الثَّقَافِيَّ الذي كَانَ يُشرِفُ عَلَى تَحرِيرِهِ بِصَحِيفَةِ الرَّأيِ الآخَرِ. يَاسِرُ يَذهَبُ إلَى حَيثُ الجَسَارَةُ دَائِمًا، والرَّأيُ الآخَرُ كَانَتْ في صِدَامٍ دَائِمٍ مَعَ السُّلطَةِ، ويَاسِرُ كَذَلِكَ. يَكرَهُ القُبحَ لِذَا وَقَفَ في جِهَةِ الجَمَالِ، وَقَفَ جِهَةَ حَيثُ جَاءَ قَدِيمًا أَوَانَ عَودَتِهِ مِن العِرَاقِ، تَارِكًا ابتِسَامَاتِهِ وضَحَكَاتِهِ المُقَهقِهَةَ، ورَغبَتَهُ في التَّعَرُّفِ عَلَى النَّاسِ واحتِوَاءِ الفَرَاغِ بِمَا يُمكِنُ أَن يَملأَهُ، فَيُشعِلَ الحَيَاةَ مِن حَولِهِ.
هُنَاكَ حَيثُ كَانَت مُنتَدَيَاتٌ ولِقَاءَاتُ المَقَاهِي وبُيُوتُ الطَّلَبَةِ، لَا يَكِلُّ الذَّهَابَ لِيَعْبُرَ إلَى الآخَرِ المُختَلِفِ. كَوَّنَ الصَّدَاقَاتِ مَعَ العِرَاقِيِّينَ وغَيرِهِم مِن العَرَبِ، وأَضَاءَ بِالحِوَارَاتِ أُفُقَ جَهلِهِم بِبِلَادِنَا، فَعَرَفُوا السُّودَانَ والسُّودَانِيِّينَ نَهِمِينَ لِلاطِّلَاعِ ومُنَقِّبِينَ بين الكُتُبِ المُثمِرَةِ. وظَلَّت ثِمَارُ المَعْرِفَةِ الَّتِي استَمَرَّت في النُّمُوِّ، ظَلَّت تِلكَ الثِّمَارُ تَتَسَاقَطُ عَلَى كُلِّ مَن حَولَهُ.
مَقَالَاتٌ ودِرَاسَاتٌ نَقدِيَّةٌ وقَصَائِدُ وفِعلٌ مُصَادِمٌ لِلقُبحِ بِكُلِّ مَا أُوتِيَ مِن طَاقَاتٍ. وكَنَهرٍ صَغِيرٍ يَتَعَرَّجُ يَمْنَةً ويَسرَةً. بَينَ الأَصحَابِ والكِتَابَةِ والإِخرَاجِ التِّلفِزيُونِيِّ والإِعدَادِ البَرَامِجِيِّ وكِتَابَةِ الدِّرَامَا والقَصَائِدِ والنَّثرِ. مَكتَبُهُ المَفتُوحُ مُطلَعَ الألفِيَّةِ مَلَاذُنَا الدَّافِئُ، لَم يُغلِق بَابًا ولَم يُشعِرْنَا بِأَنَّهُ صَاحِبُ المَكَانِ، يَدخُلُ ويَخرُجُ مُستَأذِنًا مِنَّا عَلَى وَعدٍ بِالعَودَةِ حَامِلًا حَقِيبَةَ يَدَيْهِ المُمتَلِئَةَ دَائِمًا أَورَاقًا وكُتُبًا، لِيَتَوَقَّفَ عَن الخُرُوجِ لِإكمَالِ حَدِيثٍ انعَطَفَ فَجأَةً صَوبَ حِكَايَةٍ أَو قَصِيدَةٍ.
يَهتَمُّ كَثِيرًا ويُشَجِّعُ بِلَا كَلَلٍ، ويَفتَحُ لَكَ طَاقَةً صَوبَ أَمَلٍ بِنَجَاحَاتٍ وأَحلَامٍ مُحَقَّقَةٍ. لَا يَمَلُّ أَن يَقُولَ لَكَ: (مَالُو؟؟ خَلِّينَا نَبدَأْ ..)
تَعَلَّمتُ مِنهُ عِشقَ البَحثِ عَن أُفُقٍ جَدِيدٍ. وتَعَلَّمتُ كَيفَ يُمكِنُ لِلإنسَانِ أَن يُفسِحَ لِكُلِّ حَبِيبٍ مِن الأَحِبَّةِ مِسَاحَتَهُ الخَاصَّةَ الَّتِي لَا تَتَجَاوَزُ وَلَا تُختَصَرُ.
يَزْمَحُ فَتَكتَشِفُ أَنَّ وَرَاءَ الأَكَمَةِ جِدِّيَّةً حَرِيصَةً عَلَى تَكسِيرِ الصُّخُورِ الَّتِي تَسُدُّ طُرُقَ الحَيَاةِ المُتَجَدِّدَةِ.
يَاسِرُ عَوَضُ يُشبِهُ نَفسَهُ، حَيثُ لَا ضَوءَ أَجمَلُ مِمَّا يُشعِلُهُ قَلبُهُ الفَانُوسُ الذي لَا يُغَادِرُ ظُلمَةً في الطُّرُقَاتِ إِلَّا وَكَشَفَ مَا وَرَاءَ ظِلَالِهَا، فَتَنتَهِيَ المَخَاوِفُ.
وَوَقتَ الثَّورَةِ ودِيسَمبَرَ مَشَى جَزْلًا، وهُوَ يَرَى حُلُمًا بِالشَّعبِ السُّودَانِيِّ يَتَخَلَّصُ مِن مَخَاوِفِهِ ويَتَحَدَّى، يَتَحَقَّقُ أَمَامَ عَينَيهِ المُؤمِنَتَينِ، وَوَاصَلَ مَا ثَابَرَ ونَاضَلَ لِسَنَوَاتٍ مَعَ آخَرِينَ مِن أَجلِهِ.
انشَغَلَ كُلَّ تِلكَ السَّنَوَاتِ بِهَذِهِ اللَّحظَةِ، وعَاشَهَا عِندَمَا جَاءَت بِكُلِّ جَوَارِحِهِ، فَلَم يَنْتَبِه لِمَا كَانَ يَنهَشُ الجَسَدَ في الأَعمَاقِ.
أُحَاوِلُ أَلَّا أَغرَقَ في الأَحزَانِ، لِأَنَّهُ أَصَرَّ عَلَى أَلَّا نَغرَقَ فِيهَا. دَخَلتُ عُزلَتِي فَعَمِلَ عَلَى أَن أَخرُجَ مِنهَا. والآنَ جَاءَتنِي العُزلَةُ بِفَقدِنَا لَهُ، لِأَلتَفِتَ وأَرَاهُ يُشِيرُ صَوبَ جِهَةِ الجَمَالِ عَائِدًا إلَيهَا حَيثُ جَاءَ، عَائِدًا بِجَسَارَتِهِ تِلكَ الَّتِي وَاجَهَ بِهَا المَوتَ في صَمتِ رُوحٍ وَوَحدَةِ جَسَدٍ، ثُمَّ حَمَلَ مَا تَبَقَّى مِن عَجزِنَا مُسَاعَدَتَهُ، ومَضَى مُبتَسِمًا بِجَمَالٍ، عِاقِدًا حَاجِبَيهِ بِجَسَارَةٍ كَعَادَتِهِ، لِيَبدَأَ مِن جَدِيدٍ قَائِلًا: (مَالُو؟؟ خَلِّينَا نَبدَأْ ..).
الدوحة 26 نوفمبر 2025

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.