يا صديقي ياسر.. ضحكتك لم تغب

صحيفة الهدف

 قرشي الطيب

ومن أين أُكمل بعد كل هذا يا ياسر؟ هل من تلك الأمسيات التي تسرّبت في ليالينا العراقية كنجمة لا تنطفئ؟ هل من تلك الربيعية حين كنا نعود من أبوغريب متثاقلين بالتعب، فنجدك ـ قبل الشاي وقبل الخبز ـ قد سبقتنا إلى الضحك، توزعه على الأرصفة كقصائد مجانية لا تُباع، ونتزاحم نحن حول موهبتك كما يتزاحم الجياع حول رغيفٍ يسيل عطرًا! هل أواصل من تلك الليالي التي كنا نعدها خطابات مسرحية سرية، تسخر من الجنرالات، وتجلد الفساد، وتفضح الجهل، ثم نضحك نحن ضحك الغافرين، ضحك المساخر التي تعرف أن الفن باقٍ وأن الاستبداد زائل؟ ونراك هناك، تُشعل السخرية بجدية العارف، وتلقي النكتة وكأنها بيان سياسي، فتربك الجمهور بين أن يضحك.. أو يثور! أكمل لك من تلك الأمسيات في الجامعة التكنولوجية، والموصل والبصرة وكلية الفنون الجميلة، جامعة بغداد، حين كنت تأتي وخلفك رياح القصيدة، فتلحق بك الطالبات كما لو أن الشعر عطر، وكأنك تمشي لا على قدميك، بل تمشي على إيقاع موسيقى لا يسمعها إلا أصحاب الأرواح الخفيفة، فنتبعك نحن، تلاميذ الشعر والدهشة، نردد معك حين تقول: “يا قوم.. إننا عشاق!” فتضحك وتقول: “بل نحن هواة الجنون!” قدّمت لنا بغداد كما لا يعرفها أحد، قدّمتها صديقةً لا مدينة، وملهمَةً لا جغرافيا، ومسرحًا لا عاصمة، ثم جاءت يدك تقودنا إلى عالمٍ آخر، إلى القنوات، إلى الكاميرات، إلى قاعات المونتاج، إلى حبر المقال والنقد، إلى أن تكون أنت.. ذلك الإعلامي المختلف، الذي جمع دراما المسرح وصرامة المونتاج، وثورة السياسة وبراءة القصيدة، فأصبح اسمك منصبًا بلا كرسي، ومكانتك رتبة بلا أوسمة، يكفي أن تُقال “ياسر عوض” حتى يعرف القوم أن الحديث عن مهنة بضمير.. وعن إعلام يمشي منتصبًا كقلم لا ينحني. واليوم يا صديقي، نقف في الطريق الطويل نفسه، لكننا بلا ضحكتك التي كانت تقود الصف، بلا تلك السخرية التي تشبه قنديل حارة لا ينام، نمشي كما تعلّمنا منك، نحب كما علمتنا القصائد، نثور كما درّبتنا خشبة المسرح، ونكتب كما كتبت أنت: لا نهادن.. لا نساوم.. لا نتنازل عن الفن. نم قرير العين يا رفيق الرحلة، يا مدير “قناة الخرطوم” الذي لم يكن مديرًا فحسب، يا شاعر الشاشة، يا ناقد الأحداث، يا عاشق بغداد والخرطوم معًا، يا من علمتنا أن الوطن قد يكون قصيدة.. وأن الصداقة قد تكون مسرحًا.. وأن الحياة ـ رغم قسوتها ـ تستحق أن تُعاش بصوتٍ عالٍ.. كما كنت تحيا. رحمك الله بقدر ما أضحكتنا، وغفر لك بقدر ما ألهمتنا، وجعل ما تركت من فنٍّ يظل شاهدًا عليك، فالفن لا يُدفن.. والأصدقاء الحقيقيون لا يغيبون. ألمي فيك مهول وحزني عليك عظيم يا ياسر.. وإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي الله.. اللهم ارحم أخي الغالي ياسر عوض واغفر له واسكنه الفردوس الأعلى من الجنة برحمتك يا أرحم الراحمين، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا، واحسن اللهم عزاءنا وعزاء الأهل والأحباب وعزاء أصدقائه وزملائه وعارفي فضله فيه، والهمنا أجمعين الصبر الجميل. ﴿إنا لله وإنا إليه راجعون﴾.

#ملف_الهدف_الثقافي #ياسر_عوض #قرشى_الطيب #بغداد #المسرح #الإعلام #رثاء #ضحكة_لا_تغيب

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.