السودان واقتصاد العملة الممزقة.. من جذور الأزمة إلى جغرافيا الدولار في زمن الحرب

صحيفة الهدف

منذ اللحظة التي بدأ فيها الجنيه السوداني يفلت من قبضة الدولة، كان ذلك إعلاناً مبكراً عن الانتقال من اقتصادٍ منضبط إلى اقتصادٍ متشظٍّ، ومن سوق وطنية واحدة إلى أسواق متعددة تحددها الجغرافيا وواقع الحرب. غير أن جذور هذه الأزمة ليست جديدة، بل تعود إلى أكثر من أربعة عقود، حين فُتحت لأول مرة أبواب تعدد أسعار الصرف في عهد مايو بعد مصالحة 1978، مع ظهور ما عُرف بـ “دولار القمح” و”دولار الدواء” و”دولار الجمارك” بوصفها حلولاً سياسية لتمرير أول برنامج لصندوق النقد الدولي. ومع مرور الزمن، ترسخت هذه السياسة في عهد الإنقاذ، خاصة بعد مؤتمر 1992 الاقتصادي وتبني الخصخصة واقتصاد السوق، حيث تحول سعر الصرف إلى أداة سياسية لتمويل الدولة وإدارة أزماتها أكثر من كونه مؤشراً نقدياً يعكس قوة الاقتصاد الحقيقي.
وعقب ثورة ديسمبر، لم يشهد النهج الاقتصادي تغييراً جذرياً، بل تم الدفع به إلى أقصاه عبر سياسات التحرير الكامل وفق مقاربة “حمدوك – البدوي”، التي انتهت بتعويم الجنيه بالكامل. في تلك اللحظة، أصبح الدولار سلعة قائمة بذاتها، لا تخضع لسلطة البنك المركزي، بل لقانون العرض والطلب، سواء كان عرضاً طبيعياً أو مفتعلاً بفعل المضاربات. ومع تراجع الاحتياطي الأجنبي، ودخول جهات نظامية وأمنية إلى سوق العملة، وفقدان البنك المركزي أدوات التحكم، تحول سعر الصرف إلى مرآة لغياب الدولة أكثر من كونه مرآة للاقتصاد.
ثم جاءت الحرب لتكون الزلزال الأكبر الذي عمّق الشروخ القديمة وخلق أخرى جديدة. فمع انهيار الجهاز المصرفي، وتوقف التحويلات البنكية، وقطع الطرق، وتراجع عمل مؤسسات الدولة، تحولت المدن السودانية إلى جزر نقدية منفصلة، لكل منها سعرها الخاص للدولار، واقتصادها الخاص، وقواعدها المختلفة. لم يعد الجنيه يعكس قيمة موحدة، بل يعكس موقعاً جغرافياً، ونمط سيطرة عسكرية، وطبيعة النشاط الاقتصادي في كل منطقة.
في بورتسودان، التي أصبحت العاصمة المؤقتة ومركز القرار الإداري والبحري، يسجل الدولار أعلى سعر بسبب الطلب الكبير المرتبط بتمويل الحرب، واستيراد القمح والمشتقات النفطية، وحركة الموردين والمضاربين، وتحويلات الخارج. وهكذا صار سعر بورتسودان بمثابة “السعر المرجعي” للبلاد كلها، حتى في مناطق لا تربطها به علاقة اقتصادية مباشرة.
أما الخرطوم والجزيرة، فقد انخفض الطلب فيهما على الدولار مع انهيار المصارف وتوقف القطاعات الإنتاجية وهجرة السكان، ما جعل الأسعار أقل نسبياً، رغم استمرار ارتباط التجار بسعر بورتسودان عبر شبكات المضاربة.
وفي دارفور وكردفان، تتشكل حالة مختلفة، حيث تتوفر كميات كبيرة من الدولار عبر رواتب المقاتلين، والأموال المنهوبة، وحركة تهريب الذهب والمخدرات والصمغ العربي. ورغم توفر النقد الأجنبي، تبقى الأسعار مرتفعة بفعل صعوبة نقل البضائع وغياب سلطة تنظيمية، وتحول الدولار إلى أداة لشراء الإمداد العسكري أكثر من كونه أداة تجارية.
أما مدن الشمال والشرق مثل دنقلا وعطبرة، فتشهد أسعاراً “وسطية” نتيجة استقرار نسبي وبعض الأنشطة التجارية الحدودية، دون الوصول لانهيار الخرطوم أو فوضى دارفور.
خلال ذلك كله، فقد البنك المركزي دوره تماماً: التحكم في الكتلة النقدية، إدارة الاحتياطي، تنظيم الجهاز المصرفي، وتثبيت سعر الصرف. ومع فقدان الحكومة لنحو 60% من مواردها، لجأت إلى الطباعة غير المغطاة، فازدادت قيمة الجنيه تآكلاً، وتعاظم التضخم، وتحولت السوق إلى ساحة مفتوحة لإعادة التسعير اليومية. كما خرج جزء كبير من تحويلات المغتربين نحو الدول التي تقيم فيها أسرهم، لا نحو السودان المنقسم.
الخلاصة أن السودان لم يعد يمتلك “سوقاً وطنية موحدة للعملة”، بل مجموعة أسواق منفصلة، يتحدد فيها سعر الدولار بحسب درجة السيطرة العسكرية، وحركة التجارة، ومصادر النقد الأجنبي، ومستوى الأمان. وهذه ليست أزمة اقتصادية فحسب، بل تعبير صارخ عن التشظي المؤسسي والسياسي الذي تعيشه البلاد.
لن يعود للسودان سعر واحد للدولار قبل أن تعود له دولة واحدة. ولن يستعيد الجنيه قيمته قبل استعادة وحدة الجهاز المصرفي، وإعادة بناء البنك المركزي، وضبط الكتلة النقدية، ووقف الحرب، ومنع المضاربات، وتوحيد الجبايات والسياسات المالية.
المعركة الحقيقية للجنيه ليست مع الدولار، بل مع غياب الدولة نفسها. ما لم تستعد مؤسساتها وحدتها، سيظل الدولار الحاكم الفعلي للسوق، وستظل العملة الوطنية مجرد ورقة لا تملك من السيادة سوى الاسم.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.