حول خطاب القصر الأخير للبشير

شيء من حتى
دكتور: صديق تاور كافي

الخطاب الذي قدمه عمر البشير للشعب السوداني، يوم الجمعة 21 فبراير الماضي، من القصر الجمهوري، يعتبر الأول منذ بداية الثورة السودانية منتصف ديسمبر 2018م. فقد ظل عمر البشير طيلة الفترة الماضية، يتعرض للحراك القائم كحالة عارضة لا تستحق التناول الجذري، رغم تعرضه لها في كل المناسبات التي ظهر فيها عبر الإعلام الرسمي. لقد ظهر البشير على الشاشات منذ بداية الثورة في عدة مناسبات، مثل لقاء قادة الشرطة، وحامية عطبرة، حشد الكريدة الصوفي وحشد الساحة الخضراء وزيارة نيالا وكادقلي والأبيض.
الدافع وراء كل هذه الحركة الصاخبة هو الرد على الحراك الشعبي المطالب بتنحيه وزوال حكمه بشعار (تسقط بس)، بإظهار وجود موالين له يمكن أن يثبتوا حكمه المهتز، تحت عنوان (تقعد بس). إذاً ما الذي يحمله هذا الخطاب الذى أصاب كثيرين بخيبة الأمل؟

أولاً: لقد جاء الخطاب بعد اجتماع البشير بأعضاء حزبه النافذين في السلطة، وتأخر خطابه طويلاً بسبب المداولات داخل الاجتماع حيث جاءت المخرجات مختلفة تماماً عما سربه مدير جهاز الأمن للإعلام قبل إلقاء الخطاب.
فالاجتماع، الذي فرضه الحراك الثورى، لم يكن معنياً ببحث سبل معالجة الأزمة الوطنية التي بلغت سقفها الأعلى، وإنما بحث سبل تجنيب منظومة المؤتمر الوطني مآلات هذا الحراك الذي بات واضحاً أنه لن يرضى بأقل من زوال النظام برمته وليس رموزه فقط، لذلك جاء الخطاب فضفاضاً وخالياً من أي مضامين.

ثانياً: سبقت هذا الخطاب تحركات دولية وإقليمية وداخلية على صلة مباشرة بما يجرى في السودان، أهمها التحرك الأمريكي الذي يبحث عن خروج آمن للبشير تحت لافتة الاستقرار مقابل العدالة. بمعنى أن تستخدم الولايات المتحدة الأمريكية نفوذها الدبلوماسي في سحب ملف دارفور من المحكمة الجنائية الدولية، وترتيب بديل داخلي للنظام يضمن عدم المساءلة الداخلية لمنسوبيه ورموزه.
وهذا الخط يجد امتداده المكمل له في بعض دوائر الحكومة، والمعارضة، على رأسها رئيس حزب الأمة القومي وأسرته التي تتوزع ما بين نداء السودان والقصر والأمن. وهذا يفسر زيارة القائم بالأعمال الأمريكي للصادق المهدي في الأسابيع الماضية بمنزله لاستطلاع الأوضاع في السودان، ويفسر أيضاً الدور المسنود لإبنه عبد الرحمن في الإفراج عن المعتقلين، وكذا الإفراج عن منسوبي أسرته وحزبه دون بقية المعتقلين من موكب قادة العمل السياسي والمدني قبل أسبوع. ويفسر أيضاً صمت الصادق طويلاً بل وتهكمه على الحراك قبل أن يلتحق به أخيراً.
كما يفسر ذلك، إنتقائية الاعتقالات التي تطال معسكر المعارضة وقادتها.. فبينما يتم استهداف قوى الإجماع الوطني بهذه الاعتقالات الإنتقائية، والإحتفاظ بقادتهم كرهائن في ظل الحديث عن تحسين سلوك الأحزاب من باب الإبتزاز، يتم بالمقابل عكس ذلك مع آخرين..
على سبيل المثال من حزب البعث، فقط، ما يزال الأستاذ علي الريح السنهورى أمين سر الحزب، معتقلاً منذ موكب المهنيين الأول في 25 ديسمبر 2018م، كما من ذات الحزب نائبه عثمان إدريس أبو راس، الذي أعتقل من موكب قادة الأحزاب ولم يفرج عنه حتى الآن، وقبله محمد ضياء الدين الناطق الرسمي للحزب، والمهندس عادل خلف الله رئيس اللجنة الإقتصادية، وقبله وجدي صالح المحامي، والمهندس عبد الرحيم السنجك، والكوادر النسوية القيادية الأستاذتان منيرة سيد علب وأمانى3 إدريس.. والعشرات ممن لا يسع المجال لإيراد أسمائهم..

ثالثاً: تضمن الخطاب بعض العناوين المتداولة في خطاب الثوار، مثل الكفاءات وقومية الحكم، ولكنه تضمين للاستهلاك والإفراغ من المحتوى ليس إلا، فقد جاءت الإجراءات اللاحقة لتقول العكس تماماً على صعيد حل حكومة الوحدة الوطنية والتعيينات البديلة مركزياً وولائياً.

رابعاً: بعد كل هذه الشهور الطويلة من الغلاء الفاحش وانعدام السيولة وأزمة الدقيق والوقود وغيرها، يقول عمر البشير إنه (سوف يوجه) حكومة الكفاءات التي لم يشكلها بعد، باتخاذ التدابير اللازمة لمعالجة الأزمة الإقتصادية. وهذا معناه الصريح والواضح، أنه لا حل يرتجى من البشير ونظامه، ولا خيار سوى زوال حكمه.

خامساً: محاولة عسكرة المشهد السياسي بحالة الطوارئ، وتعيين قادة عسكريين في الولايات، هو بالدرجة الأساس، ترتيب أوضاع داخلية لها علاقة بتوازن القوى داخل النظام، ولا علاقة لها بحراك الشارع، الذي تخطى حواجز الرهبة والخوف، وتحدى آلة القمع والبطش بعشرات الشهداء وآلاف المعتقلين والمعتقلات. ويدرك قادة النظام قبل غيرهم أن العنف والترهيب لن يزيد الثورة إلا اشتعالاً ولهيباً.

خطاب القصر الأخير هو خطاب الرحيل بما يتضمن من مؤشرات وإفلاس. وهو يفتح الباب لتقاطع سيناريوهات الرحيل، التي شهدتها تجارب سابقة في المنطقة، أهمها تونس ومصر.
ولقطع الطريق أمام سرقة الثورة أو الإنحراف بها أو انتكاستها، فإنه لا بد من إعلان الإضراب السياسي والعصيان المدني الآن، وليس غداً…

إنتهى