م / عبدالمنعم مختار
#الهدف_آراء حرة
في خطوة تكاد تُدرَّس في كليات “سوء التقدير السياسي”، أعلنت حكومة الأمر الواقع في بورتسودان رفضها دخول بعثة تقصي الحقائق بشأن انتهاكات الفاشر. قرارٌ يجمع بين الغباء السياسي وقلة الحيلة، ويكشف هشاشة الرواية الرسمية أكثر مما يحميها. فالحكومة التي أمضت أسابيع وهي تملأ الفضاء ضجيجًا بالحديث عن “فظائع الدعم السريع”—وهي فظائع ثابتة وواضحة ومسجلة بالصوت والصورة—تتراجع فجأة أمام أبسط اختبار:
دعوا العالم يرى الحقيقة.
الرفض لم يكن مفاجئًا بقدر ما كان فاضحًا. إذ كيف لحكومة تزعم الدفاع عن المدنيين أن تخشى لجنة دولية تأتي لتوثيق جرائم الميليشيا المعتدية؟ وكيف لمن يتباكى على دماء أهل الفاشر أن يغلق الأبواب في وجه العدالة؟ يبدو أن ما جرى في الفاشر صار عبئًا لا ورقة رابحة في يد معسكر الحرب. وأن التحقيق — إن جاء — لن يكتفي بكتابة قائمة بجرائم الدعم السريع، بل سيتجاوزها ليفتح ملفات لا يريدها أحد في بورتسودان أن تُفتح.
يزداد المشهد عبثًا مع الدور المتنامي للذكاء الاصطناعي في تضخيم جرائم الدعم السريع إعلاميًا. صحيح أن الجرائم واقعية ومروّعة، لكن تحويل الفاشر إلى مادة بروباغندا رقمية متقنة، مقرونة بحملات نظمها الذكاء الاصطناعي لتوجيه النقاش العام، كشف أن المعركة لم تعد بين جيش وميليشيا فقط، بل بين روايات تكافح من أجل السيطرة على وعي الناس. فجأة يصبح الخطر الأكبر ليس الميليشيات التي تقتل في الأرض، بل الأصوات التي تقول “لا للحرب” في الفضاء.
ثم تأتي موجة إغلاق حسابات بعض المعارضين ومحاكمتهم، وإعادة تدوير قرارات قديمة لإسكات النقد، لتكتمل لوحة “تشتيت الانتباه”. كل ذلك محاولة فاشلة لتحويل الرأي العام بعيدًا عن السؤال الحقيقي: لماذا تخاف الحكومة من التحقيق في الفاشر؟
ولماذا تتحول من خصم للدعم السريع إلى خصم للمدنيين والديمقراطيين ودعاة السلام؟
إن أخطر ما في هذا القرار أنه ينسف كل ادعاءات “الشرعية” و”الدفاع عن الوطن” و”الوقوف مع الضحايا”. فالحكومة التي تمنع التقصي لا تبحث عن الحقيقة، بل عن الوقت… والنجاة… وربما عن ذاكرة قصيرة للسودانيين.
من يملك الحقيقة لا يخشاها… ومن يخشاها لا يحق له أن يتحدث باسم الضحايا.

Leave a Reply