سلسلة مقالات: ثقافة السلام في زمن الحرب الدائمة (من البقاء إلى الازدهار – رحلة إعادة اكتشاف الإنسانية)
تأتي سلسلة مقالات (ثقافة السلام في زمن الح رب الدائمة: من البقاء إلى الازدهار – رحلة إعادة اكتشاف الإنسانية)، في سياق السعي إلى إعادة تعريف معنى السلام كفعل وعي ومقاومة، لا كاستراحة بين ح ربين؛ وفي محاولة لاستعادة إنسانيةٍ تتآكل تحت ركام الع نف، وإحياء صوت العقل في زمنٍ صار فيه الصمت لغة الخوف. فإذا كانت التعددية هي شكل السلام في الاجتماع، فإن الذاكرة الجمعية هي روحه في الوعي، لأنها الجسر بين ما كنا وما يمكن أن نكون. تناول المقال السابق: عقد اجتماعي جديد – من دولة الح رب إلى مجتمع السلام.، أما المقال الحالي، فينتقل إلى بعدٍ مكمّل: السلام الإيجابي – من إنهاء الحرب إلى بناء مستقبل مشترك
(7 – 9)
السلام الإيجابي: من إنهاء الحرب إلى بناء مستقبل مشترك
ليس السلام لحظة تُطوى فيها الح رب، ولا صمتاً يهبط على الخراب بعد أن يُسكت السلاح. فغياب الرصاص لا يعني حضور السلام، تماماً كما أنّ غياب المرض لا يعني حضور العافية. ما يُسمّى (السلام السلبي) ليس إلا هدنة مُعلّقة على جدار هش، صمتاً يُخفي تململ الجراح تحت الرماد. أما السلام الإيجابي، فهو فلسفة كاملة، انتقال من نفيِ الح رب إلى إثبات الحياة؛ من إيقاف الموت إلى صناعة المستقبل؛ من التعايش رغم الاختلاف إلى التعايش عبر الاختلاف ذاته، بوصفه ثراءً لا تهديداً.
السلام الإيجابي يبدأ من الجذور، لا من السطح. إنّه إعادة هندسة للبنى التي تُنتج الصراع، الاقتصاد المختل، والتوزيع الجائر، والفقر المتوارث، والتهميش، وانعدام الفرص. هنا يتجسد ما يمكن تسميته بـ(السلام الهيكلي)؛ سلام يبنى على عدالة قابلة للقياس، لا على وعود معلّقة. فلا يمكن للسلام أن يترعرع في بيئة الظلم، لأنه كما يقول جون رولز: (العدالة ليست إحدى الفضائل، بل هي الفضيلة الأولى للمؤسسات). وما لم تُعالج اختلالات السلطة والثروة، سيظل الصراع كامناً ينتظر لحظة الانفجار، مثل بركان خامد لا يخدع أحداً.
إلا أن إصلاح الهياكل ليس سوى نصف الطريق. فالجغرافيا الاجتماعية يمكن إعادة بنائها، لكن الجغرافيا النفسية أكثر تعقيداً. الصراع الحقيقي يسكن في الإدراك الجمعي، في الصور الذهنية، في روايات الخوف، وفي اللغة التي تُشكّل وعينا. هنا يبرز مفهوم (السلام الثقافي) بوصفه تحولاً جذرياً في طريقة النظر إلى الذات والآخر. فثقافة الكراهية لا يمحوها القانون، بل يمحوها تغيير المخيال الاجتماعي. تحتاج المجتمعات إلى تفكيك الأساطير التي صنعت (العدو)، وإلى خطاب معرفي جديد يُعيد تشكيل العلاقات، وفقاً لما يذكره فوكو عن أن (المعرفة ليست مجرد تفسير للعالم، بل هي قوة تصنعه). وهكذا يصبح خطاب السلام قوة مضادة لخطابات الإقصاء، يحتاج إلى تربية نقدية، وإلى فنون قادرة على تحويل الندوب إلى لغة، والذاكرة إلى جسر لا إلى جدار.
ثم يأتي أعمق مستويات السلام: (السلام العلائقي)، وهو مستوى لا يُبنى بالمؤسسات وحدها، بل بالثقة التي تُولد من اللقاء الإنساني المباشر. إنه الانتقال من رؤية الآخر كتهديد إلى إدراكه كمرآة تعكس جزءاً من وجودنا. في هذا المستوى يتجسد قول مارتن بوبر: (كل الحياة لقاء). اللقاء بوصفه فعلاً وجودياً، هدمٌ للحواجز غير المرئية، وسعيٌ للفهم لا للإخضاع. ولا يعني بناء السلام العلائقي محو الماضي، بل إعادة النظر فيه، تحويله من ذاكرة جراح إلى ذاكرة دروس، ومن سردية ألم إلى سردية عبور.
ولكي لا تبقى هذه الرؤية حبيسة الفلسفة، لا بد من ترجمتها إلى مشاريع ملموسة. مشاريع تنموية مشتركة تجعل التعاون مصلحة لا شعاراً. بنى تحتية عابرة للحدود، مناطق إنتاج مشتركة، سياسات تكامل اقتصادي تعيد بناء شبكات الثقة. ثم جسور ثقافية: جامعات سلام، وبرامج تبادل معرفي وشبابي، ومهرجانات فنية تتكلم لغة الروح التي لا تعرف الانقسام. وأخيراً منصات حوارية دائمة تدرّب الجيل الجديد على فن الإصغاء قبل مهارة الكلام، وتنتج معرفة مشتركة حول قضايا الخلاف بدلاً من إنتاج مزيد من الخلاف حول المعرفة.
السلام الإيجابي ليس وعداً سياسياً، بل قدرٌ إنساني. ليس نهاية الطريق، بل بدايته. هو انتقال من سؤال الخوف)كيف نمنع الح رب؟( إلى سؤال الحكمة(كيف نصنع عالماً لا تكون الح رب فيه خياراً من الأساس؟). وكما يقول ليفيناس: (السلام ليس غياب الح رب، بل فضيلة تنبثق من عمق الروح). إنه فعل يومي، ممارسة مستمرة، ورحلة طويلة تتطلب شجاعة مواجهة الذات بقدر ما تتطلب شجاعة مواجهة الآخر.
فالسلام الإيجابي، في جوهره، هو إيمان بأن المستقبل يمكن أن يكون أرحب من الماضي، وأن البشر قادرون على التحول حين يؤمنون بأن إنسانيتهم المشتركة أكبر من كل الحدود التي صنعتها السياسة، وأقوى من كل الجراح التي صنعتها الح رب.

Leave a Reply