سلسلة مقالات: ثقافة السلام في زمن الح رب الدائمة (من البقاء إلى الازدهار – رحلة إعادة اكتشاف الإنسانية)

صحيفة الهدف

تأتي سلسلة مقالات (ثقافة السلام في زمن الح رب الدائمة: من البقاء إلى الازدهار – رحلة إعادة اكتشاف الإنسانية)، في سياق السعي إلى إعادة تعريف معنى السلام كفعل وعي ومقاومة، لا كاستراحة بين ح ربين؛ وفي محاولة لاستعادة إنسانيةٍ تتآكل تحت ركام الع نف، وإحياء صوت العقل في زمنٍ صار فيه الصمت لغة الخوف. فإذا كانت التعددية هي شكل السلام في الاجتماع، فإن الذاكرة الجمعية هي روحه في الوعي، لأنها الجسر بين ما كنا وما يمكن أن نكون. تناول المقال السابق: الذاكرة الجمعية: من جرح الذاكرة إلى حكمة الاعتراف، أما المقال الحالي، فينتقل إلى بعدٍ مكمّل: عقد اجتماعي جديد – من دولة الح رب إلى مجتمع السلام.

(6 – 9)

عقد اجتماعي جديد – من دولة الح رب إلى مجتمع السلام

أ‌. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة

يولد السلام الحقيقي من لحظة مواجهةٍ مع الذات، حين تكتشف الأمم أن الخراب ليس قدرًا، وأن التاريخ لا يُعاد بنبرة الندم، بل بجرأة التأسيس. وفي السودان، لم تعد الح رب حدثًا عابرًا في كتاب الدولة، بل أصبحت جرحًا مفتوحًا في الوعي الجمعي، يستدعي عقدًا اجتماعيًا جديدًا يعيد ترتيب العلاقة بين الإنسان والدولة، بين السلطة والشرعية، بين القانون والحرية. فالعقد الجديد لا يأتي ليستبدل وثيقة بأخرى، بل لينشئ تصورًا مغايرًا لطريقة العيش المشترك: تصورًا ينتقل من دولة تُنتج العنف إلى مجتمع يُنتج السلام.

في هذا العقد الجديد، تُعاد المواطنة إلى معناها الأول: بوصفها انتماءً للإنسان قبل أن تكون انتماءً للأرض، وبوصفها علاقة أخلاقية قبل أن تكون علاقة قانونية. فالمواطنة، لكي تكون أساسًا للسلام، يجب أن تتحرر من أثقال الامتيازات، ومن المراتبية،، التي خلقتها عقود طويلة من التهميش والتفاوت. لا انتماء فوق آخر، ولا هوية أعلى من أخرى، ولا مركز يبتلع الأطراف، ولا أطراف تُستدعى فقط عند الق تال. فالمجتمع، الذي يريد أن ينهض بعد الح رب لا بد أن يُعيد تعريف الوطن باعتباره عهدًا متبادلًا: الجميع فيه شركاء في الحقوق، وشركاء في الواجبات، وشركاء في المصير.

ولا يمكن لسلام أن يُرسَّخ ما لم تواجه الدولة إرث الح رب مواجهة صريحة. فذاكرة ال دم لا تمحوها الشعارات، ولا تنساها الشعوب طوعًا. العدالة الانتقالية هنا ليست مجرد محاسبة قانونية، بل عملية أخلاقية شاملة تعيد للضحايا صوتهم، وتعيد للإنسان قيمته، وتُحصّن المستقبل من تكرار الماضي. إنها مواجهة مع الألم، لا بهدف الانتقام، بل بهدف التحرر منه؛ مواجهة تُعيد بناء الثقة، التي انهارت بين الدولة ومواطنيها، وتضع الأسس لزمن جديد تكون فيه الحقيقة شرطًا للشفاء، والعدالة شرطًا للسلام.

لكن السلام لا يعيش على القيم وحدها؛ إذ لا يمكن بناء مجتمع متصالح فوق اقتصاد منهار. فالح رب لم تكن صراعًا سياسيًا فقط، بل كانت أيضًا نتيجة اختلال اقتصادي عميق خلق طبقات من الحرمان، وحوّل الثروة إلى مصدر صراع بدل أن تكون أداة نهضة. لذلك، يشكل الاقتصاد المنتج حجر الأساس في العقد الاجتماعي الجديد، اقتصاد يحرر المجتمع من الارتهان إلى الخارج، ويعيد الاعتبار لقيمة العمل، ويعيد توزيع التنمية لتكون شاملة لا مركزية، فلا تبقى مناطق كأنها هامش على خرائط السلطة. فالسلام الذي يبنى على البطالة والفقر هشّ، والسلام الذي يبنى على العدالة الاقتصادية راسخ لا تهزه العواصف.

ويكتمل العقد الجديد حين تُستعاد أدوار المؤسسات بوصفها أدوات لبناء السلام لا لإعادة إنتاج الهيمنة. فالتعليم هو الرافعة الأولى لهذا التحول، إذ لا يمكن لمجتمع خرج من الح رب أن يتجاوز ذاته ما لم يخرج من مناهج تُكرّس الانغلاق، أو تُعيد إنتاج التحيزات. التعليم في زمن السلام يصبح مؤسسة لصناعة الذات السودانية الجديدة: ذات تؤمن بالاختلاف، وترى في التنوع قوة لا تهديدًا، وفِي الحوار وسيلة لا رفاهية.

أما الإعلام، فهو صوت العقد الجديد ولغته. فالكلمات ليست مجرد تعبير، بل قوة تُبني بها الأمم أو تُهدم. والإعلام الذي يريد أن يكون جزءًا من السلام يجب أن يتحرر من صناعة الكراه-ية، ومن تزييف الوعي، ومن منطق التحريض. عليه أن يتحول إلى منصّة للحوار الرشيد، يكشف الحقائق دون أن يشعل الفتن، ويُعبر عن الناس دون أن يُستخدم ضدهم، ويرسم فضاءً عامًا تقوم فيه السياسة على العقل لا على الغريزة.

ويبقى القضاء، في كل تجارب البشرية، هو الميزان، الذي يثبت أو يسقط به العقد الاجتماعي. لا سلام بلا قضاء مستقل، ولا مساواة بلا قانون يعلو على الجميع، ولا مجتمع آمن ما لم يشعر كل فرد فيه أن الظلم يمكن محاسبته، وأن الحقوق ليست منحة من سلطة، بل ضمانة تُحرس بالمؤسسات. فالقضاء هو الحارس الأخير للاستقرار، وصوت الضحايا الأخير قبل أن تنهار الجسور.

وفي النهاية، فإن العقد الاجتماعي الجديد ليس مشروعًا سلطويًا ولا بيانًا نظريًا، بل انتقالٌ وجودي من منطق القوة إلى منطق الشراكة، ومن حكم الغلبة إلى حكم القانون، ومن ذاكرة الح رب إلى أفق المستقبل. إنه وعدٌ جديد بين السودانيين بأن السلام ليس هدنة مؤقتة، بل طريقة حياة؛ وأن الدولة ليست جسدًا فوق المجتمع، بل مرآته؛ وأن المستقبل لا يُولد من رحم الجغرافيا، بل من إرادة الناس.

السلام الحقيقي لا تمنحه القوى الدولية، ولا تنتجه موائد التفاوض وحدها؛ السلام الحقيقي يولد عندما يقرر شعبٌ كامل أن زمن الح رب انتهى، وأن زمن الإنسان بدأ.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.