
سلطة اللاعنف في مقابل سلطة العنف وسقوط المشروع الديني-السياسي سودانيا
بقلم: أحمد محمود أحمد
تقديم:
سلطة اللاعنف، والتي يرمي إليها هذا المقال تتصل بسلطة الجماهير التي تمارس فعل القطيعة مع السلطات الحاكمة والمسيطرة على مقاديرها، وبالتالي تختار المواجهة السلمية ضد هذه الأنظمة الحاكمة من أجل الوصول لأهدافها.
سلطة اللاعنف تعتمد على مرجعية اخلاقية، وتنأى بنفسها عن ممارسات سلطة العنف وتتخير طريق المواجهة المستندة على قاعدة الحقوق المشروعة، ومدعومة بشرعية المقاومة السلمية، من أجل استرداد الحقوق والحريات المسلوبة.
تتطلب سلطة اللاعنف نوعاً من الصبر والمعاناة، وتحمل ردة فعل سلطة العنف، والتي يمكن أن تستخدم كافة الأدوات لقمع سلطة اللاعنف، أو تسعى لتوريطها في ممارسات العنف بصورة أو أخرى، وهنا تحتاج سلطة اللاعنف إلى قيادة واعية تدرك استراتيجية سلطة العنف، وتعمل لإفشالها والتركيز على المواجهة السلمية والتي تراهن على الضمير، حتى عند الجلاد نفسه، وكذلك على الضمير العالمي حتى الوصول لإسقاط سلطة العنف.
في السودان اليوم، ومنذ ديسمبر الماضي تتجلى سلطة اللاعنف وضمن مواجهة راكزة ومستمرة، تتأسس على منهجية أخلاقية سلمية وتشتغل على هدم المشروع الديني- سياسي وفق حركة جماهيرية تنتظم القطر كله، مما يشير إلى أن هذا الحراك المستمر لم يكن من أجل مطالب وقتية، بل هي ضد المشروع (الحضاري) والذي بشر به تيار الإسلام السياسي في السودان، والذي قد سقط عمليا، وفق منطق الجماهير الثائرة ضده، ووفق الفشل البنيوي في طبيعة الدولة، إذن كيف سقط ذلك المشروع؟
سقوط المشروع الحضاري:
الأطروحة الأهم لتيار الإسلام السياسي في السودان، ارتبطت بتطوير فكرة تتصل بالمشروع الحضاري، والذي قصد به تعطيل كافة المشاريع الحداثية، من أجل إقامة مشروع تكون أرضيته ذات صيغة دينية، تتأسس على مفهوم التمكين بمفهومه الديني، وبالتالي استرجاع التجربة الحضارية الإسلامية بتجلياتها الماضوية والتأسيس لها في الحاضر.
الإشكالية الخطيرة في هذا الطرح، أي المشروع الحضاري، إنه لم يدرك ومنذ البدء أبعاد المعادلة الحضارية نفسها ولهذا أسس لسقوطه منذ البدء.
المعادلة الحضارية تقوم على ثلاثة أضلاع يمثلها الإنسان من جهة، والأرض، والزمن، من جهة أخرى (راجع مشروع مالك بن نبي في هذه الرؤية)، والذي لا يستطيع فهم هذه الأبعاد فإنه لا يستطيع التحرك في أي مجال يتصل بالحضارة.
فلقد هدم هذا المشروع، والذي نادى به تيار الإسلام السياسي في السودان من خلال عدم الوعي بالأضلاع السابقة (الإنسان، الأرض، الزمن) فتم ومن خلال حكم الإسلام السياسي، ضرب معادلة الإنسان نفسه، وتجريده من إنسانيته، وتجريده من حقوقه المشروعة في الحياة، مما أدى لإغتراب الإنسان السوداني عن وطنه واعتزاله لمشروع سلطة العنف.
أما فيما يتعلق بالأرض، فإن تلك الأرض السودانية قد أصبحت ضمن حيازة تيار الإسلام السياسي، وقام بمصادرتها لصالحه، وحرمان الإنسان السوداني منها، أو تقسيمها وتفتيتها وفق أجندة دينية تتناقض والوعي الحضاري نفسه.
أما فيما يتعلق بالزمن، فإن مشروع الإسلام السياسي السوداني كان خارج الزمن الحضاري وموغل في عدمية التفكير، والانقطاع عن المرحلة الراهنة، والتي تتأسس فيها الحضارة على قاعدة التفكير العقلاني، وليس على يوتوبيا التفكير الديني.
ومن خلال فشل هذه المعادلة الحضارية فشل المشروع الحضاري، ودخل أزمته المبكرة، إذ تحول من مشروع حضاري، إلى مشروع للهيمنة على الأخر، ومصادرة حقه في الحياة. والأهم فإنه قد تحول إلى مشروع للنهب، والفساد بشكل غير مسبوق في تاريخ السودان، وكشف عن عيوبه الفشل الذي صاحبه، والذي أدى إلى فشل الدولة وسقوط أركانها، وهذا مما أدى في النهاية لخروج الجماهير واستخدامها لسلطة اللاعنف من أجل وضع نهاية لهذا المشروع، والذي أصبح مجرد مشروع أمني يمارس العنف ضد هذه الجماهير، والتي قررت أن تتحمل أكبر قدر من التضحية والمعاناة، حتى تضع هذا المشروع خارج دائرة الفعل والوجود.
سلطة اللاعنف ونتائج المواجهة:
لقد تبلورت سلطة اللاعنف في السودان وتحديدا بعد الاستقلال في الثورات السلمية التي شهدها السودان في أكتوبر 1964، ومارس-أبريل 1985، والتي أدت للاطاحة بالأنظمة الديكتاورية.. الذي اختلف في طبيعة المواجهة بأن ثورة أكتوبر، ومن بعدها مارس-أبريل، كانتا ضد حكم عسكري ديكتاتوري، ولكن المواجهة الراهنة في سياق الواقع السوداني هي مواجهة ضد مشروع ديني تسلطي يتبنى عقيدة شعاراتية، تحاول فرض رؤاها ضمن أجندة اختزالية للواقع، وتستند إلى سلطة العنف في تثبيت أركان الدولة.. سلطة اللاعنف في الواقع السوداني هي سلطة متجددة، ومتجاوزة لمشروع سلطة العنف، وكذلك يتجدد خطابها في مقابل الخطاب البائس لسلطة العنف.. لقد انطلقت قوى سلطة اللاعنف وفق قياسات رفض المشروع الديني الذي جسده تيار الإسلام السياسي، وكان أهم شعاراتها هو ( سلمية، سلمية، وضد الحرامية)، هذا الشعار يشير إلى حقيقة انتهاء المشروع الديني، ليتجسد فقط في صيغة النهب المنظم للوطن، وبالتالي يتحول أعضاء هذا المشروع إلى مجرد حرامية في نظر الشارع، وهذا هو المقتل الحيوي للمشروع الحضاري، وبالتالي سقوطه.. عمليا قد سقط مشروع التيار الديني- السياسي، وذلك من خلال الرفض الجماهيري الكاسح له، وبالتالي انعدام قاعدته الشعبية تماماً، فحتى القرى النائية تخرج ضد هذا المشروع، مما يعني سقوطه عند الذهنية الشعبية وبحسها العفوي.
إذن ماذا تبقى من هذا المشروع؟ الذي تبقى من هذا المشروع هي شبكة المصالح الطفيلية، التي تكونت عبر العقود الثلاثة الماضية، مدعومة بقوى الأمن والمخابرات، وتدافع هذه الطبقة عن مصالحها، في مقابل مصلحة القوى الشعبية، التي قررت ومن خلال التحرك السلمي اقتلاع هذه الطبقة الطفيلية.
في الواقع فإن المعركة هي معركة كبيرة، لأن طبقة المصالح هذه تنعدم لديها الأبعاد الاخلاقية، وللدفاع عن مصالحها يمكن أن تمارس أقصى أنواع العنف، كما حدث منذ ديسمبر الماضي، وحتى الوقت الراهن.. لكن وضمن رؤية شمولية فإن المشروع الديني قد تهاوى برمته، وتهاوت أركان الدولة في مجملها، ما تبقي إلا السقوط الأخير لطبقة المصالح المتشابكة تلك، ومعها قواها الأمنية وكتائبها، وهذا يتطلب من قوى وسلطة اللاعنف مزيداً من التماسك، والقدرة على التحمل، وتصعيد ذلك الخطاب الذي يعري مشروع الإسلام السياسي حتي تؤول السلطة للجماهير وما ذلك ببعيد.