القرآن والعلم – إعادة اكتشاف العقلانية في زمن الخرافة- (7)

صحيفة الهدف

أ‌. طارق عبد اللطيف أبو عكرمة

ليس (اقرأ) مجرد دعوة لمحو الأمية الحرفية، بل هو تأسيس لمنهجية وجودية في التعامل مع العالم. الأمر الإلهي الأول لم يكن (اسجد) أو (اعبد)، بل كان (اقرأ)، واضعًا العقل في قلب المشروع القرآني، (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الزمر: 9). هذه العقلانية ليست تكرارًا للعقلانية الأداتية الغربية، بل هي عقلانية متكاملة تزاوج بين القلب والعقل، بين الغيب والشهادة، بين الإنسان كفاعل معرفي والكون كآية مفتوحة.

وهذا المنهج المتكامل تجلى في ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، حيث لم يكن العلم مجرد تراكم معرفي، بل كان تجسيدًا عمليًا لقول الله تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ﴾ [العنكبوت: 20]. فالسير في الأرض والبحث في بدء الخلق لم يكن مجرد فضول علمي، بل كان عبادة وتدبرًا.

الآيات القرآنية الكونية تقدم تصورًا منهجيًا لا ينفصل فيه الدليل العلمي عن الدلالة الروحية، (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لأُوْلِي الألْبَابِ) (آل عمران: 190). لكن الفكر التقليدي حوّل هذه الدعوة إلى أسطرة، مرة بالتفسير الخرافي للظواهر الطبيعية، ومرة بالاكتفاء بـ(الإعجاز العلمي) كغاية في ذاته. بينما المنهج القرآني يوجهنا إلى التفكر النقدي والتجريب: (فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ) (الطارق: 5).

لم يكن تحول العرب من أمة أمية إلى أمة عالمة في القرن الذهبي للإسلام صدفة، بل كان ثمرة هذا التوجيه القرآني. فابن الهيثم في كتاب المناظر لم يكتف بالتأمل، بل أجرى تجارب عملية صارمة على الضوء والرؤية، مجسدًا لأمر (فلينظر) باعتباره منهجًا للتجريب. والرازي، في الطب، لم يكتف بالنقل، بل اعتمد على الملاحظة والاختبار، مقدمًا نموذجًا مبكرًا لما أصبح لاحقًا (الطب التجريبي). ونموذج الخوارزمي في الرياضيات يقدم مثالاً آخر على هذه العقلانية المتكاملة. ففي كتابه (الجبر والمقابلة)، لم يكتف بحل المعادلات، بل رأى في الرياضيات لغة الكون التي تعكس انتظام الخلق وإحكام الخالق، مجسدًا الآية القرآنية: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49]. هذه النماذج التاريخية جسدت العقلانية القرآنية في أوضح صورها: عقل يتفكر، يجرب، ويبتكر.

لكن هذه العقلانية تواجه اليوم تحديين متناقضين: الإسلام السياسي الذي اختزل النص إلى فقه الطاعة وشرعن الاستبداد، والعلمانية المادية التي أنزلت العقل إلى بعده الأداتي الخالي من الغيب والضمير. الأول أنتج خرافة (الحاكم المقدس)، والثاني أنتج علومًا بلا أخلاق. القرآن يقدم طريقًا ثالثًا: عقلانية متوازنة ترى في الغيب بُعدًا مكملًا للعقل، لا نقيضًا له، وفي العلم وسيلة للتعمير لا للاستعباد.

ويظهر التحدي اليوم في معضلة الإبداع العلمي في الوطن العربي، حيث تشير تقارير اليونسكو إلى أن الإنفاق على البحث العلمي لا يتجاوز 0.3% من الناتج المحلي الإجمالي في المتوسط، بينما يتجاوز 2.5% في الدول المتقدمة. هذه الفجوة ليست مادية فقط، بل هي فجوة في الرؤية والعقلانية.

هذه الرؤية لم تبق نظرية في الفكر القومي العربي. فقد أكد الأستاذ ميشيل عفلق أن (الدين إذا لم يكن قوة تحرر، فإنه يصبح دينًا مزيفًا)، رابطًا بين جوهر الرسالة القرآنية وطاقتها التحررية وبين مشروع النهضة القومي. أما الشهيد صدام حسين فقد شدد في خطابه عام 1979 على أن(يجب أن يكون العلم سلاحنا في معركة التحرر والبناء، وأن تكون المدرسة معمل الإنسان الجديد)، وهو بذلك وضع تطوير العلم في صميم المشروع الوطني والقومي، ورأى أن رسالة البعث لا تكتمل دون ثورة علمية تعيد للأمة العربية مكانتها.

في التجربة العراقية خلال الحكم الوطني، قد طبق بالفعل هذا التصور عبر الاستثمار الكبير في التعليم العالي والبحث العلمي. ففي الثمانينيات، تم إنشاء مراكز أبحاث في مجالات الزراعة والطاقة والطب، مع هدف معلن هو تحقيق (الاكتفاء العلمي) كشرط للاكتفاء السياسي. ورغم ما شاب التجربة من إشكالات بسبب الحروب والحصار الأمريكي، فإنها جسدت مبدأً جوهريًا من العقلانية القرآنية، والذي يتمثل في أن التمكين الحضاري يبدأ من تحرير العقل بالعلم.

ويمكن الاستفادة من الدروس المستفادة من التجربة العراقية في مشاريع علمية معاصرة، مثل مشروع (القمر الصناعي العربي) أو (المشروع العربي للجينوم البشري)، التي تجمع بين التقنية المتقدمة والهوية الحضارية.

غير أن العقلانية القرآنية لا تكتمل إذا بقيت حبيسة النخبة. فهي تختبر في حياة الناس اليومية أيضًا، في مواجهة الخرافة الشعبية التي تدفع البعض إلى الشعوذة باسم الدين، أو في مواجهة الاستلاب الثقافي الذي يجعل بعض الشباب يرون في العلم الغربي وحده خلاصًا بلا روح. هنا تبرز الحاجة إلى (دراسة معرفة قرآنية شعبية)، تجعل من العلم قيمة حياتية متجذرة في الثقافة العامة، لا مجرد شأن أكاديمي معزول.

وإذا قارنا بالعقلانية الغربية، نرى أن ديكارت جعل من (الكوجيتو) أساسًا للوجود، وكانط جعل من (العقل العملي) مصدرًا للأخلاق. أما القرآن، فيضع الأساس في الجمع بين العقل والغيب، بين الحرية والمسؤولية، (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا) (الإسراء: 36). العقلانية هنا ليست استقلالًا عن الوحي، بل هي انفتاح نقدي يستلهمه.

إننا بحاجة إلى مشروع نهضوي عربي للعلم يقوم على هذا التوازن، علم متأصل في قيم الأمة العربية، مرتبط بأولوياتها (الماء، الطاقة، الغذاء)، ومؤسس على علاقة جديدة مع الطبيعة، لا كموارد تستنزف، بل كآيات تُقرأ وتحترم. وهذا يتطلب ثورة في التعليم، وربط الحرية العلمية بالمسؤولية الأخلاقية، ووضع سياسات بحثية مستقلة عن الأجندات الغربية.  وتبقى الأسئلة الملحة، في  كيف يمكن ترجمة هذه الرؤية إلى مشاريع علمية عربية معاصرة؟ هناك بوارق أمل في مشاريع مثل:

1. مشروع نور المغربي للطاقة الشمسية، الذي يجمع بين التقنية والاستدامة

2. مدينة مصدر في الإمارات، التي تدمج التكنولوجيا النظيفة مع التصميم المستدام

3. الأبحاث العربية في الطب النبوي التي تجمع بين التراث والمنهج العلمي

هذه النماذج تثبت أن العقلانية القرآنية ليست حبيسة الماضي، بل يمكن أن تكون إطارًا للمستقبل

العقلانية القرآنية، في النهاية، ليست ترفًا فكريًا، بل شرط بقاء حضاري. هي دعوة للانتقال من (علم التبعية) إلى (علم الاستخلاف)، علم يعيد تعريف وظيفة الإنسان باعتباره خليفةً في الأرض، مكلفًا بالتعمير لا بالاستنزاف. كما قال الأستاذ ميشيل عفلق، (إن رسالة البعث رسالة حضارية في جوهرها، تهدف إلى إحياء الأمة العربية وإعادة ثقة الإنسان العربي بنفسه وتاريخه). وفي ضوء هذا، يصبح السؤال الملح: هل يمكن للأمة العربية أن تخترع نموذجها العلمي الخاص، المستلهم من القرآن، في زمن تغرق فيه الإنسانية بين خرافة السياسة وخرافة المادة؟

الجواب يبدأ من استعادة ذلك الصوت الأول: (اقرأ). ليس بوصفه أمرًا للحفظ أو للتلاوة وحدها، بل كنداء وجودي يجعل من العلم عبادة، ومن العقلانية شرطًا للحرية، ومن الاستخلاف مشروعًا حضاريًا للأمة العربية كلها.

وتبقى المعادلة الصعبة: كيف ننتقل من القراءة كفعل فردي إلى القراءة كمشروع جماعي؟ كيف نحول (اقرأ) من أمر شخصي إلى استراتيجية قومية؟ الإجابة تكمن في بناء منظومة علمية عربية متكاملة، تجعل من المعرفة سـ.ـلاحًا للتحرر، ومن العقلانية منهجًا للنهضة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.