المرأة في غناء مصطفى سيد أحمد… المجدلية والوطن في مريم الأخرى

صحيفة الهدف

حين يغني مصطفى سيد أحمد، لا تتجلى المرأة ككائن عاطفي فحسب، بل كرمز تتقاطع فيه الأزمنة والفضاءات، كأرضٍ تُنجب الحلم وتُغذي الصبر، وكوطنٍ يتجدد في كل ولادةٍ جديدة. المرأة عند مصطفى ليست أنثى عابرة في قصيدة، بل هي مجاز الحياة كلها، وشيفرة الوجع السوداني النبيل الذي يتكئ على الأمل رغم التعب.

من بين تلك التجليات، تبرز قصيدة «مريم الأخرى»، التي كتبها الأديب والشاعر محمد عبد الله شمو، كأحد أعقد النصوص وأعمقها رمزية في غناء مصطفى. قصيدة تداخل فيها صوت الأرض بصوت المرأة، والرحيل بالحلم، والوجع بالأمل. فـ«مريم» هنا ليست مريم المجدلية وحدها كما تخيلها المستشرق دوغلاس في حوار الزاكي عبد الحميد، بل هي الوطن نفسه، الأنثى الكبرى التي «أنجبتنا قطاراً وحقيبة»، أي أورثتنا الرحيل والمنفى، ثم وهبتنا المنافي لتبقى هي في القلب رغم البعاد.

لقد استطاع مصطفى بصوته العميق، أن يجعل من النص فضاءً روحياً تتقاطع فيه التوبة مع الثورة، والوجد مع الوطن. أداؤه في مريم الأخرى لم يكن أداء مطربٍ فحسب، بل أداء متبتّلٍ في محراب المعنى، يُصلي للأرض والمرأة والناس معاً. شاركته فرقته هذا الانخطاف، فكان اللحن جسراً بين الكلمات والوجدان، تتناوب فيه النبرة والسكوت كأنهما شهقة ودمعة في آنٍ واحد.

في غناء مصطفى، المرأة تتجاوز حدود الجسد إلى رمزية الوطن والمصير؛ فهي «عزة» في قصيدة الخليل، وهي «بت الأحلام» التي تُلهم الصمود، وهي «البت الحديقة» التي تمثل خصب الروح وميلاد الأمل. لذلك يمكن القول إن كل أنثى في غناء مصطفى هي مريم أخرى؛ تجسد الوطن في أبهى تجلياته وأشد جراحه عمقاً.

بهذا المعنى، تصبح المجدلية التي «تنتظر المغفرة والعودة» هي صورة السودان ذاته، المصلوب على صخر المعاناة، ينتظر خلاصه بالحب والتضحية. غناء مصطفى إذن لم يكن مجرد فن، بل فعل وجودٍ يقاوم العدم، حيث تمتزج المرأة بالأرض، والموسيقى بالصلاة، لتولد من رحم الوجع أنشودة الخلاص.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.