لم يعد عبور الحدود خلاصًا من المأساة، بل امتدادًا لها. فالسوداني اليوم يعيش بين مطرقة الجبايات في الداخل وسندان التشرّد في المنافي، فيما تحوّلت سفارات بلاده في الخارج إلى صورة مصغّرة من الوزارات التي هرب منها، تمارس الفساد ذاته بأسماء جديدة وشعارات منمّقة. قراراتها تُتخذ لا لتخدم المواطن، بل لتُثقل كاهله وتستنزف ما تبقّى من جيبه وكرامته.
في جوهر سياسات هذه السفارات، كما في وزارات الداخل، هدفٌ واحد لا يختبئ خلف الشعارات: تحصيل المال لا خدمة الوطن. لقد تحوّلت المكاتب الدبلوماسية إلى جبايات متنقّلة، وأصبحت الجالية السودانية في كل بلد خزينة بديلة تُملأ بالعُملات الصعبة. الحرب التي أحرقت البلاد لم تدمّر فقط المدن والناس، بل صدّرت الفساد معها إلى عواصم اللجوء.
ماقررته السفارة السودانية في المملكة العربية السعودية يفضح المآرب، حين قيّدت تسجيل الطلاب السودانيين في المدارس السعودية بالقادمين من الخرطوم فقط، رغم أن مطار العاصمة مغلق منذ اندلاع الحرب، وهيتعلم أن أغلب اللاجئين دخلوا المملكة عبر دول الجوار. الهدف لم يكن التعليم ولا التنظيم، بل تحصيل رسوم الامتحانات بالدولار. وهكذا تحوّلت المدارس السودانية في المهجر إلى أسواق تعليم سوداء بلا إشراف رسمي، تُدار لمصلحة السفارات والوسطاء، بينما تُركت الأسر تغرق في أعباء لا ترحم.
وفي دول أخرى، يشتكي اللاجئون من رسوم “التصديقات” و”الاستمارات” و”الوثائق القنصلية” التي تُفرض عليهم بلا مبرّر، حتى صار استصدار جوازٍ أو شهادة ميلادٍ معركة مالية تستنزف ما تبقى من قوتهم. كثير من هذه السفارات تتعامل مع المواطن بوصفه موردًا ماليًا لا إنسانًا يحتاج إلى حماية ورعاية.
وفي الداخل، لا يختلف المشهد كثيرًا: الجامعات تدعو طلابها إلى العودة لجباية الرسوم ثم تُبقي الدراسة عن بُعد. إنها السياسة نفسها، من الخرطوم إلى الرياض، ومن ود مدني إلى القاهرة، دولة تقتات على معاناة مواطنيها بدل أن تحميهم.
وفي موازاة هذا الفساد المنظّم، تتّسع المأساة على الحدود. فمن نجا من القصف في الخرطوم أو الفاشر أو الجزيرة، وجد نفسه يتيه في صحراء ليبيا. هناك، في مدينة الكفرة وحدها، يعيش أكثر من 65 ألف لاجئ سوداني، يتقاسمون الجوع والعطش ولدغات العقارب.
جلّ الذين نزحوا هربوا حين اقتحمت قوات الدعم السريع مدنهم، وحين استعر أوار الحرب أدركوا أن القذائف لا تفرّق بين نازحٍ ومقاتل، ليجدوا أنفسهم عالقين في التيه، تبحث عنهم المنظمات بينما تغيب دولتهم عن السمع.
لقد أصبح المواطن السوداني يدفع الثمن مرتين: مرة حين يُستنزف بالرسوم في الداخل، ومرة حين تتاجر السفارات في مأساته بالخارج.
فقد تحوّلت الحرب إلى تجارة، والوطن إلى غنيمة، والسفارات إلى شركات جباية.
أما الذين نهبوا أيام الرخاء، فهم اليوم يأكلون حتى طعام الطير من قبوركم.

Leave a Reply