
أ.د. شادية أحمد لازم
#ملف_الهدف_الاقتصادي
لا يقتصر مرض السل على كونه مجرد عدوى بكتيرية تصيب الأنسجة الرئوية، بل يمكن اعتباره ظاهرة أنثروبولوجية معقدة، تجسد العلاقة الجدلية بين الإنسان وبيئته، وبين الصحة والاقتصاد، وبين التقدم والهشاشة. في السودان، لا يمثل السل مجرد تحدٍ صحي، بل هو ناقوس خطر يدق ليعلن عن اختلال عميق في المنظومة البيئية والاجتماعية والاقتصادية، التي تتيح لميكروب قديم أن يستوطن ويُحدث دمارًا واسعًا.
المسبب المرضي: حوار بيولوجي بين الإنسان والحيوان
تقف عصية المتفطرة السلية (Mycobacterium Tuberculosis) وعصية المتفطرة البقرية (Mycobacterium Bovis) وراء هذه المعضلة الصحية. هذان الكائنان المجهريان لا يحملان مقاومة فحسب، بل يمتلكان قدرة على اختراق الحواجز الاصطناعية التي أقامها الإنسان بين عالمه وعالم الحيوان. إنهما يجسدان مفهوم “المرض حيواني المنشأ”، ليس كتصنيف علمي جاف، بل كحقيقة وجودية: صحتنا مرتبطة بشكل لا فكاك منه بصحة الماشية التي نربيها، والبيئة التي نشاركها.
الآلية المرضية، المتمثلة في تكوين “الدرنات” أو الآفات الحبيبية، هي استعارة بيولوجية للصراع الدائر بين مناعة الكائن الحي وعناد الميكروب الذي يختار التعايش والتسلل بدل المواجهة المباشرة.
الوبائيات: جغرافيا المرض وسياسات الإهمال
يظل السل متوطنًا في السودان بتقديرات تفوق الآلاف سنويًا، لكن هذه الأرقام ليست سوى قمة جبل الجليد. لقد عملت النزاعات المسلحة وتشريد السكان كعامل محفز، محولة برامج المكافحة من أولوية إلى رفاهية. في ولايات مثل جنوب دارفور وكسلا، لا يهدد السل البقري الثروة الحيوانية فحسب، بل ينساب بصمت عبر الأوعية اللبنية النيئة إلى أجساد البشر، محولًا الغذاء إلى قنابل بيولوجية موقوتة. الحرب الدائرة اليوم لا تنتج ضحايا بالرصاص فقط، بل تخلق بيئة خصبة لانتشار وبائي يتفاقم تحت وطأة سوء التغذية والمناعة المنهكة.
التشخيص والانتقال: سردية التفاعل البشري – الحيواني
تتشابه المظاهر السريرية بين الإنسان والحيوان: سعال منهك، وهن، وضمور. هذا التشابه ليس صدفة، بل دليل على المسار البيولوجي المشترك. طرق الانتقال تُنسج خريطة للتفاعل اليومي بين الراعي وماشيته، وبين المستهلك وغذائه. انتقال العدوى عبر الهواء من إنسان لآخر، أو عبر الحليب غير المبستر من حيوان لإنسان، يروي قصة العلاقة الحميمة والمميتة في آن واحد بين الطرفين. إن ممارسات السلامة الغذائية الرديئة والرقابة البيطرية المحدودة ليست مجرد إخفاقات تقنية، بل دلالة لاختلال أعمق في إدراك المخاطر وتقدير الصحة ككل متكامل.
الأثر الاقتصادي: تشريح لدورة الفقر والمرض
يخلق السل البقري حلقة مفرغة من الخسائر. فهو لا يقتصر على إتلاف الذبائح وخفض إنتاجية الحليب واللحوم، بل يتعداه إلى فرض قيود تجارية وتهديد الأمن الغذائي على مستوى قومي. على الجانب البشري، يحول المرض الأفراد من منتجين إلى عاجزين، مرهقًا ميزانيات الأسر ومانحًا الفقر شرعية جديدة. الاقتصاد هنا ليس مجرد أرقام، بل نسيج حي من العلاقات الإنتاجية التي يدمرها المرض.
الصحة الواحدة: رؤية فلسفية للحل
يأتي منهج “الصحة الواحدة” (One Health) كاستجابة فلسفية وعملية لهذا التشابك. إنه يقر بأن صحة الإنسان، وصحة الحيوان، وصحة النظم البيئية حلقات في سلسلة واحدة لا تنفصم. مكافحة السل في السودان، وفق هذا المنظور، تتطلب تفكيك الحواجز القطاعية بين وزارات الصحة والثروة الحيوانية والزراعة. إنها دعوة لتأسيس عقد اجتماعي جديد، حيث يصبح تعويض المربي عن حيوان مصاب استثمارًا في الصحة العامة، وحيث تصبح بسترة الحليب قضية وطنية، وحيث يصبح التعاون بين الطبيب البيطري والطبيب البشري ضرورة وجودية وليس ترفًا إداريًا.
التحديات والتوصيات
تواجه السودان تحديات جوهرية تعيق المواجهة: بنية تشخيصية هشة، ثقافة استهلاك الحليب الخام، وتفتيت المسؤوليات. لذلك، يجب أن ترتكز التوصيات على:
1/ تأسيس البنية التحتية للمعرفة: تعزيز القدرات المختبرية للتشخيص الدقيق والتمييز بين السلالات.
2/ بناء الجسور المؤسسية: إنشاء هيئة تنسيقية دائمة للصحة الواحدة ذات صلاحيات واضحة.
3/ تحفيز الإبلاغ: وضع سياسات تعويض عادلة لتشجيع الإبلاغ الطوعي عن الأمراض.
4/ تمكين المجتمع: تنفيذ حملات توعية ترتقي بسلوكيات التعامل مع الغذاء والحيوان.
5/ التكامل الإقليمي: مراقبة حركة الماشية عبر الحدود كجزء من الدفاع الصحي القومي.
خاتمة
السل في السودان هو أكثر من مرض؛ إنه استعارة لحالة من الهشاشة النظامية. التغلب عليه ليس مجرد مسألة توفير أدوية أو بناء مختبرات، بل اختبار لإرادة المجتمع في إعادة تعريف علاقته ببيئته وثرواته وأفراده. النجاح في هذا الاختبار لن يقاس بعدد الحالات التي تم شفاؤها فقط، بل بمدى قدرتنا على بناء نظام صحي مرن، قائم على إدراك بسيط وعميق: أن صحتنا مصير واحد، مشترك مع كل كائن نشاركه هذا الكوكب.
#السل_في_السودان #الصحة_الواحدة #الأمن_الغذائي #الصحة_الإنسانية #الثروة_الحيوانية #التحديات_الصحية #السياسات_الصحية #ملف_الهدف_الاقتصادي #التكامل_الصحي #وباء_السل #الصحة_والبيئة
Leave a Reply