
طوال عقود، اعتمدت الحركة الإسلاموية على أدوات الدولة الأمنية لقمع المعارضة وبسط هيمنتها وتنصيب نفسها الآمر الناهي صاحبة الحق المطلق ﴿ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾
كانت تسيطر على مفاصل القوات النظامية (الجيش، الشرطة، جهاز الأمن)، إلى جانب تأسيس مليشيات خاصة بها مثل “كتائب الظل”، ومجموعات طلابية مسلحة وميليشيات ذات طابع أيديولوجي.
هذه المنظومة القمعية لم تكن تعبيرًا عن قوة شعبية أو مشروع سياسي صلب، بل كانت تمثل شبكة مصالح أمنية واقتصادية وعسكرية محكمة، وظيفتها ضمان بقاء النظام وقمع خصومه.
• الانهيار العسكري وتضخم المليشيات:–
مع سقوط حكم البشير في 2019، ثم اندلاع الحرب بين الجيش وقوات الدعـ.ـم السـ.ـريع في أبريل 2023، تغيرت معادلة القوة بشكل جذري. تفككت الأجهزة النظامية التي كانت تحت هيمنة الكيزان، وبدأت تظهر قوى مسلحة جديدة، بعضها بدعم خارجي، وبعضها نشأ كرد فعل على الفراغ الأمني.
وخلال فترة قصيرة، تضخمت هذه المليشيات من حيث العدد والعدة، وتنوعت أهدافها وخلفياتها. البعض منها يحمل مشروعًا سياسياً واضحًا، والبعض الآخر عبارة عن مجموعات منفلتة تسعى لبسط نفوذ محلي أو الحصول على نصيب من الغنائم.
المفارقة هنا أن هذه المليـ.ـشيات لم تخرج من رحم الحركة الإسلامية، بل من خارجها، وفي حالات كثيرة تتعارض معها فكريًا أو سياسيًا، وان كانت كلها تدعي الولاء للجيش، بعضها حتى يُعادِي المشروع الإسلاموي تمامًا. وفيها من دخل معها في حروب لاعوام ايام حكمهم.
• المعضلة الأمنية لفلول الكيزان:–
بالرغم من محاولات الكيزان الظهور بمظهر القوة والتنظيم (من خلال الحديث عن فيلق، والعودة للميدان ونحن الكيزان و….)، إلا أن الواقع يكشف العكس.
ارتخاء قبضة السيطرة بعد أن أصبحت القوات المسلحة والأمنية (لامركزية) التواجد بحيث يصعب متابعة الموالين لمشروعها وتوجيههم من خلال التنظيم وذلك بسبب انتشار القوات اثناء القتال في جبهات مختلفة، وهي الآن ضمن فصائل ومليشيات موازية افقدتها السيطرة التي كانت موجودة ايام حكمها. حتى الجيش نفسه، الذي كان يُفترض أن يكون حليفهم الطبيعي، لم يعد محل ثقة بالنسبة لهم (حديث شيخهم عبد الحي حول الثقة في قائد الجيش) ورد الأخير عليه، وأحاديث هنا وهناك تخرج منهم حول الطوابير.
• التهديد الداخلي:–
بعض المليشيات تتخذ موقفًا عدائيًا تجاه رموز النظام السابق، وترى فيهم خصومًا لا حلفاء، وإن وضعتهم الظروف وتحديات المرحلة والعداء للدعـ.ـم السـ.ـريع معهم في خندق الجيش، ومن هؤلاء، منى اركو مناوي.
• انكشاف الغطاء الشعبي:–
بعد الثورة، تراجع التأثير الاجتماعي والسياسي للكيزان، وأصبحوا مكروهين في قطاعات واسعة من الشعب (أي كوز……)، مما قلّل فرص تجنيدهم أو دعمهم من الحواضن المجتمعية، لذلك ما كان من خيار عندهم إلا الحرب والكسب السياسي باسم الجيش، لقد نجحوا في ذلك التحشيد ولكن لصالح الجيش وقيادته الحالية، دون التعاطف معهم كحزب سياسي، وهذه من الأخطاء التي سيدفعون ثمنها حال انتهى موسم التوافق بينهم وقيادة الجيش الحاكمة، لأن مواقف الحزب تمليها قناعاته وايديولوجيته، أما مواقف الحاكم (حزب أو جيش) لا بد أن تراعي التقاطعات الدولية والإقليمية والوطنية الداخلية، فللحاكم مساحة أكبر للمناورات السياسية والتكتيكات عكس الحزب المعارض أو حتى الداعم لنظام الحكم . كذلك الانقسام داخل التنظيم والصراع بين أجنحة الحركة الإسلاموية نفسها حول من يقود ومن يتحالف مع من، زاد من حالة التشظي وأضعف قدرتهم على المناورة.
سيناريوهات مستقبلية متوقعة:-
1. الاندثار التدريجي:
في ظل تمدد المليـ.ـشيات وفقدان الكيزان لأدوات الدولة، وقد يختفي تأثيرهم السياسي والعسكري تدريجيًا، خاصة إن لم يستطيعوا التكيف مع موازين القوى الجديدة، ولم يتعلموا من دروس الماضي أيام استفرادهم بالحكم وممارسة صلفهم ( الزارعنا غير الله.. امريكا روسيا… وتحت جزمتي.. وصرفت ليها بركاوي.. ولدينا كتائب ظل تعرفونها).
2. الاحتماء بالجيش:
قد يحاولون الاحتماء بالجيش أو بشخصيات عسكرية ذات صلة بهم، لكن هذا الخيار محفوف بالمخاطر، عليهم وعلى تلك الشخصيات نظرًا لانعدام الثقة المتبادل وتغير موازين القوى وفقدهم مصدر السيطرة (الحكم).
3. اختراق المليشيات الجديدة:
من المحتمل أن يحاولوا اختراق بعض هذه المجموعات المسلحة بالتغلغل التنظيمي أو المالي، وهو تكتيك استخدموه من قبل، لكن المليـ.ـشيات الحالية أكثر رغبة في الحكم من التبعية، وهناك أكثر من ممول قادر على فرز الولاءات. لقد تعددت مصادر التمويل وبذلك لم يعد بالإمكان ضمان الولاءات خاصة حال دخلت المنافسة دول ولوبيات خارجية.
4. التحالفات الانتهازية:
قد يلجأ الكيزان إلى تحالفات ظرفية مع قوى داخلية أو خارجية (حتى مع خصوم الأمس)، في محاولة للعودة عبر “الركوب على ظهر الأزمة”، لكن هذه التحالفات ستجعلهم في موقع التابع لا القائد. وهي حالة إذا توفرت ستحدث تباينًا داخل عضويتهم التي تعتبر نفسها قدمت التضحيات الجسام من أجل العودة بمشروعهم منفردين لسدة الحكم.
– عليه:–
يمكننا القول ان الحركة الإسلاموية التي كانت يومًا ما القوة المسيطرة في السودان، تقف اليوم في موقع المرتبك، المحاصر بثلاثة أعداء: المليـ.ـشيات الصاعدة، والدعـ.ـم السـ.ـريع والذاكرة الشعبية التي ترفض عودتهم.
إنهم الآن ليسوا خارج اللعبة، بل داخلها، لكنهم بالتأكيد لم يعودوا كما كانوا. تحالفاتهم المتغيرة، خطابهم المضطرب، تعدد مراكزهم، ومحاولاتهم المستميتة للعودة، كلها مؤشرات على شعورهم، بقرب العاصفة وباحتمال النكسة أكثر من النصر، والبيع برغم مافقدوه من مال وقوة صلبة أثناء الحرب.
لذلك لم يعد السؤال المنطقي: هل ستعود الحركة الإسلاموية؟
بل أصبح: بأي ثمن يمكنهم النجاة والعودة إلى ما قبل 15 أبريل؟
وهل سيقبل أحد بعودتهم أصلًا وهم في حالة عداء مع الجميع؟
بالأمس كانت قيادة الجيش تحت قبضتهم، الآن قيادة التنظيم تحت قبضة قيادة الجيش.
Leave a Reply