
باريس: فرانس برس 24
ترجمة: الهدف
#الهدف_متابعات
في 22 مايو 2025، اتهمت الولايات المتحدة الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية في حربه ضد ميليشيا قوات الدعم السريع، دون أن تقدم أدلة مادية على هذه المزاعم التي سارع الجيش السوداني إلى نفيها. لكن فريق مراقبي «فرانس 24» وثّق حادثتين وقعتا في سبتمبر 2024 شمال العاصمة الخرطوم، تظهر فيهما مقاطع مصوّرة إلقاء براميل تحتوي على غاز الكلور من الجو، وهو ما يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الذي يحظر استخدام الكلور كسلاح.
اتهامات أمريكية وعقوبات دون أدلة
في بيانه الصادر في 22 مايو 2025، قالت وزارة الخارجية الأمريكية: «في 24 أبريل 2025، قررت الولايات المتحدة أن حكومة السودان استخدمت أسلحة كيميائية في عام 2024». وأعلنت واشنطن في البيان نفسه فرض عقوبات اقتصادية على الحكومة السودانية الخاضعة للسيطرة العسكرية، دون تقديم أي تفاصيل إضافية لدعم القرار. وردت الخرطوم في اليوم التالي بنفي قاطع للاتهامات.
وفي يناير الماضي، كانت صحيفة نيويورك تايمز قد نقلت عن مسؤولين أمريكيين قولهم إن الجيش السوداني استخدم «أسلحة كيميائية تحتوي على غاز الكلور على الأقل في مرتين عام 2024» ضد قوات الدعم السريع، لكنهم لم يقدموا تفاصيل.
تحقيق «فرانس 24»: أدلة مصوّرة وتحليل تقني
استخدم فريق مراقبي فرانس 24 أساليب التحقيق مفتوح المصدر لتقصي الحادثتين اللتين وقعتا في سبتمبر 2024 قرب مصفاة الجيلي شمال الخرطوم، والتي كانت آنذاك خاضعة لسيطرة قوات الدعم السريع. وبعد تحليل الصور والفيديوهات، أكد خمسة خبراء أن المشاهد تتطابق مع عمليات قصف جوي ببراميل تحتوي على الكلور. ويُعد الجيش السوداني الجهة الوحيدة التي تمتلك الطائرات القادرة على تنفيذ مثل هذه الهجمات.
كما تمكّن الفريق من تتبع أحد البراميل المستخدمة في الهجوم إلى شركة هندية تُدعى «كيم تريد إنترناشونال كوربوريشن»، كانت قد صدّرت 17 أسطوانة كلور إلى شركة سودانية مرتبطة بالجيش، قالت إنها مخصصة «حصراً لمعالجة مياه الشرب». لكن الاستخدام العسكري لهذه المادة يضع السودان ضمن قائمة الدول القليلة التي استخدمت غاز الكلور كسلاح منذ الحرب العالمية الأولى، حين استخدم على نطاق واسع، ثم في الحرب السورية لاحقًا، حيث خلصت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية إلى وجود «أسباب معقولة» تشير إلى أن نظام بشار الأسد استخدم الكلور ضد مناطق المعارضة.
خرق صريح للاتفاقيات الدولية
يمثل استخدام الكلور كسلاح انتهاكًا صارخًا لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية التي صادق عليها السودان عام 1999. كما يُعد استخدام «الغازات الخانقة أو السامة» جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي لعام 1998 المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية، رغم أن السودان لا يعترف باختصاصها القضائي. وحتى وقت نشر التقرير، لم يصدر أي رد من الجيش السوداني أو الحكومة على طلبات فرانس 24 لإجراء مقابلة.
مصفاة الجيلي هدف القصف الكيماوي
عقب إعلان العقوبات الأمريكية في مايو، تداولت حسابات مؤيدة لقوات الدعم السريع صورًا تزعم أن الجيش استخدم «أسلحة كيميائية» في قصف مصفاة الجيلي، الواقعة على بُعد 60 كيلومترًا شمال الخرطوم. كانت المصفاة – وهي الأكبر في السودان – قد توقفت عن العمل منذ يوليو 2023 بعد سيطرة قوات الدعم السريع عليها في بداية الحرب، قبل أن يستعيدها الجيش في يناير 2025 بعد معارك عنيفة.
في 13 سبتمبر 2024، اتهمت قوات الدعم السريع الجيش بقصف المصفاة من الجو «بصواريخ يُشتبه بأنها مزودة بغازات سامة»، ما أدى إلى اختناق عشرات العمال. انتشرت بعدها مقاطع مصوّرة تُظهر براميل صفراء وخضراء قرب المصفاة، مع عبارات تتهم الجيش باستخدام «غازات محرمة دوليًا»، إلى جانب صور لعمال يتلقون علاجًا بالأوكسجين.
التحليل الجغرافي الذي أجراه فريق المراقبين حدّد موقع البراميل داخل المصفاة وفي قاعدة عسكرية مجاورة تُعرف باسم قاعدة قري.
حادثة 5 سبتمبر: برميل وغمامة صفراء في قاعدة قري
أحد المقاطع المصورة أظهر برميلاً معدنيًا متضررًا يحمل ملصقًا أصفر مكتوبًا عليه «Oxidising Agent 5.1». وفي مقطع آخر، صُوِّر البرميل نفسه وبالقرب منه حفرة صغيرة في الأرض، وقال المصور: «أطلقوا شيئًا لا نعرفه، ربما غاز مسيل للدموع، ربما شيء آخر… لكنه أخرج غيمة صفراء، لا نعلم ما هي».
في فيديو آخر، تُظهر اللقطات سحابة صفراء تنتشر في الجو على ارتفاع منخفض. أكد الخبراء أن لون الغاز وطريقة انتشاره قريبان من خصائص غاز الكلور، الذي يبقى قريبًا من سطح الأرض، ويسبب الاختناق عند استنشاقه.
تحليل الخبراء
قال الخبير في الدفاع الكيميائي دان كاسزيتا: «الأسطوانات الظاهرة في الفيديو هي أسطوانات كلور صناعية تُستخدم عادة في معالجة المياه، لكنها تحولت هنا إلى سلاح قاتل». وأضاف الكيميائي ماتيو غيدوتي: «الكلور مادة ثنائية الاستخدام، تُعد إنسانية في الأصل، لكنها تصبح قاتلة بحسب طريقة استخدامها». كما أكد الخبير البلجيكي فريدريك كوجه أن البرميل الظاهر هو أسطوانة كلور صناعي استُخدمت بطريقة هجومية.
وقد تم تتبع الرقم التسلسلي على الأسطوانة «GC-1983-1715» إلى شركة كيم تريد في الهند، التي أكدت أنها أُرسلت إلى السودان في أغسطس 2024 لأغراض تنقية مياه الشرب فقط.
حادثة 13 سبتمبر: مادة سامة داخل المصفاة
بعد ثمانية أيام من الحادث الأول، ظهرت فيديوهات جديدة تُظهر برميلاً مماثلاً تحت شجرة داخل المصفاة. يقول أحد العمال المصورين في الفيديو: «هاجمنا الطيران الليلة الماضية وأسقط علينا أسطوانة غاز… كدنا نختنق جميعًا، وبعضنا نُقل إلى المستشفى».
تظهر مقاطع أخرى عمالاً يرتدون زي شركة مصفاة الخرطوم وهم يتلقون العلاج بالأوكسجين في عيادة الموقع، بينما يظهر خلفهم دخان وأبنية متضررة. شهود عيان أكدوا للفريق أنهم شاهدوا أشخاصًا فاقدي الوعي ويكافحون من أجل التنفس، لكن لم تُوثق أي وفيات مؤكدة.
تحليل ميداني: أدلة على إسقاط جوي
أظهرت الصور والفيديوهات أن البراميل سقطت من الجو، حيث بدت عليها آثار اصطدام عنيف بالتربة، وانكسار أغصان الشجر فوقها. أكد الخبير البلجيكي كوجه أن «التشوهات في الأسطوانات تتطابق مع آثار السقوط من ارتفاع عالٍ»، مشيرًا إلى أنه «يصعب جداً اصطناع مثل هذه العلامات».
الجيش السوداني هو الجهة الوحيدة في البلاد التي تمتلك طائرات نقل أو مروحيات قادرة على إسقاط براميل يزيد وزنها عن طن. أما قوات الدعم السريع فتمتلك طائرات مسيّرة صغيرة لا يمكنها حمل أكثر من 130 كغم.
شهادات متقاطعة ومؤشرات قوية
استعرضت فرانس 24 شهادات خمسة خبراء في الأسلحة الكيميائية والبالستية، أكدوا أن المشاهد من مصفاة الجيلي وقاعدة قري تتوافق تمامًا مع هجمات بغاز الكلور، رغم أن الأدلة لا ترقى إلى مستوى البرهان القاطع، بسبب تعذّر الدخول الفوري إلى مواقع الحوادث.
وقال الخبير غيدوتي: «بعد نصف ساعة من أي قصف، يختفي غاز الكلور طبيعيًا بفعل الرياح، لذا فإن إثبات استخدامه ميدانيًا شبه مستحيل ما لم تُؤخذ عينات دم من الضحايا مباشرة». وأضاف كاسزيتا: «وجود سحابة صفراء لا يعني بالضرورة الكلور، لكنها تتطابق في اللون والكثافة مع ما شوهد في هجمات مماثلة بسوريا».
في المقابل، رأى الخبير نيلز جنزن-جونز من شركة ARES أن «الأدلة الحالية قوية وتشير بوضوح إلى استخدام غاز الكلور كسلاح في القتال، وهو اتجاه بات متكرراً في النزاعات الحديثة».
موقف الحكومة السودانية
بعد إعلان العقوبات الأمريكية في مايو 2025، قالت الحكومة السودانية إنها شكّلت لجنة للتحقيق في مزاعم استخدام الأسلحة الكيميائية. وفي سبتمبر 2025، أصدرت وزارة الصحة السودانية تقريرًا نفت فيه «وجود أي تلوث كيميائي أو إشعاعي في ولاية الخرطوم».
لكن الخبيرة في القانون الدولي جوليا غريغنون من المعهد الفرنسي للبحوث الاستراتيجية العسكرية حذرت قائلة: «إذا تم تأكيد عم نه استخدام الأسلحة الكيميائية، فسيواجه المسؤولون – منفذو الأوامر وصانعو القرار – الملاحقة الجنائية، بما في ذلك أمام المحكمة الجنائية الدولية إن قرر مجلس الأمن ذلك، كما حدث مع الرئيس السابق عمر البشير عام 2009».
تحقيق لاحق مرتقب
من المنتظر أن تنشر فرانس 24 الجزء الثاني من التحقيق بعنوان: «الأسلحة الكيميائية في السودان (2/2): كيف تحوّل الكلور المخصص لتنقية المياه إلى أداة حرب؟».
Leave a Reply