
مقدمة:
في تلك الليلة من نيسان/ابريل 2003، حين احترقت مكتبة بغداد تحت هدير الدبابات، لم تكن النيران تلتهم الورق وحده، بل كانت تلتهم ذاكرة أمةٍ وحلمًا مؤجلًا منذ ألف عام. وفي بيروت، حين خمدت الشوارع التي أنجبت الشعراء والمقاومين، بدا وكأن المدينة فقدت قدرتها على النطق. عندها، يطل السؤال المُرّ: كيف يمكن لفكرة البعث أن تعيد إشعال الذاكرة؟ فحين تسقط العواصم، لا تسقط الجدران فقط، بل ينهار المعنى، ويتصدع الحلم العربي في جوهره.
لكن البعثي، في تلك اللحظات القاسية، لا يفتش عن ملاذ، بل يستدعي الفكرة من تحت الركام. فالانقلابية ليست حدثًا فوقيا او عسكريًا عابرًا، بل يقظة وعي تتقد كلما ضاق الأفق، وتشتعل كلما برد الدم في الشرايين. وحين تختنق المدن بالصمت، وتنطفئ الشوارع التي ولدت فيها الحرية، لا يبقى أمام الإنسان إلا أن يولد من جديد.
وهكذا، حين ضاقت الأرض على الشعب العربي، كان البعث لا كمخرج سياسي فحسب، بل كصوت داخلي يهتف بالانبعاث. فالانقلابية ليست مجرد تنظير، بل لحظة قرار حاسمة، حين يختار الإنسان أن يحيا كما يجب، لا كما يُفرض عليه.
في كتابه في سبيل البعث، يكتب الأستاذ احمد ميشيل عفلق:(إن البعثي لا يكون بعثيًا حقيقيًا إلا إذا أحسّ أن عليه أن يبعث الأمة العربية في نفسه، أن يُحييها بفكره، وأن يصوغ من حياته الفردية دليلًا على إمكان قيام الحياة العربية الحرة). بهذا المعنى، كل مرحلة من التضييق على الإنسان العربي – سواء كانت بالقمع، أو الفقر، أو تزييف الوعي، أو قتل الحلم – ليست فقط (تحديات)، بل هي لحظات دعوة لاستيقاظ البعثي في داخله. حين تُغتال حرية الوطن، ينبغي للبعثي أن يكون أول من يثور؛ وحين يُهان التاريخ، عليه أن يستدعيه في ذاكرته وفعله؛ وحين تتهاوى القيم، عليه أن يُجسدها في سلوكه.
سمات حزب البعث العربي الاشتراكي:
حزب البعث العربي الاشتراكي ليس تنظيمًا سياسيًا تقليديًا، بل هو مشروع نهضوي يجسّد رؤيةً ثوريةً للوحدة والحرية والاشتراكية. تأسس على مبادئ ثلاثية: الوحدة العربية كهدف ورؤية جدلية ثورية، ووجودي انبعاثي وهي أساس النهضة والتقدم، وأصل تجديد الأمة العربية بحقيقتها، التحرر وهو تحرر الفرد والمجتمع من تداعيات الاستعمار والتخلف والتبعية، والاستغلال اجتماعيًا كان أو ثقافي. والاشتراكية بتفجير طاقات الفرد والمجتمع وتحقيق للعدالة الاجتماعية والمساواة كضمانةٍ لكرامة الشعب والجماهير العربية. وانطلاقًا من فكر أحمد ميشيل عفلق والقادة الأوائل، صاغ حزب البعث سماتٍ فكريةً وعمليةً تميزه عن غيره، تجعله أداةً للتغيير الجذري لا مجرد حزبٍ للحكم. هذه السمات ليست شعاراتٍ جامدة، بل أدواتٌ حيةٌ لمواجهة التحديات العربية، والدولية، من التجزئة والاحتلال إلى التبعية الاقتصادية. فيما يلي أبرز السمات، التي تُعرِّف هوية البعث، وتكشف كيف حاول – وما زال يحاول – أن يكون صوت الأمة وضميرها:
1. الأخلاقية الثورية: النضال كتجسيد للقيم
تميز الخطاب البعثي بتأسيسه لمرجعية أخلاقية ثورية تجعل من النضال السياسي ليس مجرد صراع على السلطة، بل معركة وجودية بين قيم الخير والشر، التحرر والتبعية، النزاهة والفساد. لم تكن هذه الأخلاقية مجرد شعارات
بل سعت إلى أن تكون منهج في الحكم وسلوك للمناضلين، وَمصداقية في العلاقة مع الجماهير والقوى السياسية الاجتماعية وبين الفكر والممارسة.
2.الانقلابية الثورية:
لم ينظر البعث إلى الثورة كمجرد عمل عسكري أو سياسي للاستيلاء على السلطة، بل رآها عملية تحويلية شاملة تبدأ من البنية التحتية الفكرية للأمة العربية. الفكرة المحورية هنا هي أن تحرير الأرض لا يكتمل إلا بتحرير العقل من رواسب التخلف والتبعية الفكرية. لذلك، أولى حزب البعث أهمية قصوى للأسرة والتعليم والخدمات الطبية. العلاجية، والثقافة والإعلام كأدوات لـ(تحويل) الوعي الجمعي العربي من حالة الاستلاب والهزيمة إلى حالة الثقة بالنفس والإيمان بالقدرة على التغيير. فالسلطة السياسية وسيلة لتعميم هذا التحول الثوري على نطاق قومي واجتماعي، وليس غاية لذاتها بمعنى وضع السلطة وممارستها لتكون في خدمة المبادئ وتنزيل الشعارات على أرض الواقع، كما تجسد ذلك في منجزات ثورة 17 تموز/ يوليو في العراق.
3.الشعبية العضوية: من التنظير إلى الميدان
تميز حزب البعث بمحاولة تجسيد مفهوم (الحزب الشعبي) بشكل عملي يتجاوز الشعارات. لم يقتصر دور كوادره على الخطاب السياسي، بل امتد إلى المشاركة في مشاريع تنموية مباشرة تلامس حياة الناس. تجربة محو الأمية في العراق هي النموذج الأبرز، حيث تم حشد آلاف المناضلين والكوادر الطلابية في حملات تطوعية مكثفة للقضاء على الأمية في القرى والأرياف، مما أنشأ رابطة عملية حقيقية بين الحزب والجماهير، وبرهن أن ثوريته ليست معزولة عن هموم
الناس اليومية، وتأكيده على أن الشعب هو مصدر شرعية السلطة، فلا سلطة لغير الشعب ولا وصاية على الشعب.
4.الجماهيرية التنظيمية: إطار للمشاركة الشعبية
فهم البعث أن الحزب وحده لا يمكن أن يكون ممثلًا لكل فئات الشعب. لذلك، عمل على بناء منظمات جماهيرية مهنية وشعبية تكون جسورًا تربط الدولة والمجتمع، وتقوم بتأطير المواطن سياسيًا واجتماعيًا منذ الصغر. وقد شملت :
-اتحادات الطلبة والشباب: لاستقطاب وتنشئة الجيل الجديد على الفكر القومي الثوري.
-اتحادات العمال والفلاحين: لتنظيم الطبقات المنتجة وحماية مصالحها وتفعيل مشاركتها في عملية البناء والتغيير ولصالح غالب المجتمع.
-اتحاد النساء: لتحرير المرأة وتفعيل دورها في المجتمع والتنمية.
هذه المنظمات لم تكن (ديكورًا)، بل كانت أطرًا للمشاركة الفعلية، وأدوات لتعميم سياسات الدولة.
5.الثورية الدائمة: النقد والنقد الذاتي
أدرك الأستاذ المؤسس أحمد ميشيل عفلق أن أكبر خطر على الثورة هو الجمود، أن تتحول (الأفكار إلى أصنام)، والإصابة بداء البيروقراطية والروتين. لذلك، أرسى مبدأ (النقد والنقد الذاتي) كأداة للتجديد المستمر. هذا المبدأ كان يعني أن حزب البعث يجب أن يخضع لمراجعة دائمة لأدائه وأفكاره، والاعتراف بالأخطاء والنواقص، وتصحيح مسارها. وهو ما منحه مرونة نظرية وسياسية، وجعله قادرًا على تجنب التحجر.
6.القومية التحررية: مقاومة الاستعمار شرط النهضة
رفض حزب البعث (القومية) المجردة أو (القومية المتعصبة أو العنصرية). دعوة حزب البعث للقومية كانت قومية تحررية وإنسانية بالدرجة الأولى، في
الاستعمار وأدواته (الأحلاف العسكرية، القواعد الأجنبية، الكيان الصهيوني) العدو الرئيسي، الذي يجب هزيمته كشرط مسبق لأي نهضة. موقفه المعروف من مناهضة حلف بغداد في الخمسينيات هو النموذج المبكر، حيث نظر إلى الأحلاف العسكرية مع القوى الكبرى على أنها شكل حديث من أشكال الهيمنة والتبعية، وليس تعاونًا بين أنداد ودعوته لما عرف بالحياد الإيجابي.
7.الاشتراكية الإنتاجية: التنمية كهدف
لم تكن الاشتراكية في الفكر البعثي غاية عقائدية مجردة أو مجرد توزيع للثروة، بل كانت أداة استراتيجية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستقلة وبناء قاعدة صناعية وإنتاجية. الهدف كان تحرير الاقتصاد الوطني من التبعية للخارج وتحرير الإنسان والمجتمع من العوز وأي شكل من الاستغلال. قرار تأميم النفط العراقي عام 1972 هو التطبيق الأكثر وضوحًا، حيث حول القرار الثروة الوطنية من مورد تستغله شركات أجنبية إلى رافعة لتمويل مشاريع التنمية الصناعية والزراعية والتعليمية، مما عزز السيادة الاقتصادية بشكل جذري.
8.الوحدة كاستراتيجية: مدخل للتقدم الحضاري
لم تكن الوحدة العربية لدى حزب البعث مجرد شعار عاطفي أو حلم رومانسي، بل كانت استراتيجية عملية للبقاء والتقدم. المنطق البعثي يرى أن الدول العربية القطرية المفككة هي كيانات هشة وضعيفة وغير قابلة للحياة في مواجهة التحديات الإقليمية والعالمية وهذا ما يثبته الواقع الحالي كل يوم.
لذلك، فإن الوحدة هي المدخل لخلق كتلة بشرية واقتصادية وسياسية قادرة على الحفاظ على هويتها وإرادتها وتحقيق نهضتها الحضارية. التجربة الوحدوية بين مصر وسوريا (1958-1961)، رغم إخفاقها، تبقى دليلًا على السعي لتحويل هذا المبدأ إلى واقع.
9.التجديد المنهجي: ثبات المبدأ ومرونة الأساليب
أظهر حزب البعث مرونة تنظيمية ملحوظة في تاريخه، حيث طوّع أدواته لتناسب طبيعة المرحلة دون التخلي عن أهدافه الاستراتيجية. أبرز مثال على ذلك هو الانتقال من العمل السري في مرحلة التأسيس والأربعينيات إلى العمل العلني الجماهيري بعد ذلك، مع الاحتفاظ ببنيته التنظيمية الحديدية. هذه القدرة على (تغيير الأساليب النضالية) حسب الظروف – من السرية إلى العلنية، من العمل البرلماني إلى الثوري – منحته صفة الحركة الثورية المرنة، التي تستطيع الصمود والانتظار حتى تنضج الظروف لتحقيق أهدافها.
Leave a Reply