
محمد الأمين أبو زيد
#ملف_الهدف_الثقافي
المشافهة تعني اعتماد الناس على الذاكرة والنقل الشفوي في تداول المعارف والقصص والتجارب والأحداث التاريخية بدلًا من التوثيق الكتابي أو المادي. وهي ثقافة قديمة جدًا ظهرت قبل اختراع الكتابة وما تزال حاضرة في مجتمعات كثيرة، خاصة التقليدية، حيث يجلس الناس في مجالس للحكي (الونسة).
إن ملامح ثقافة المشافهة تتمظهر في:
– الاعتماد على الذاكرة، حيث تنتقل القصص والحِكم والشعر والأنساب والأمثال والأخبار من جيل إلى آخر عبر الحفظ.
– الحضور والتفاعل؛ يكون المتلقي جزءًا من عملية التواصل بالاستماع أو الرواية.
– التأثر بالعاطفة والأداء والنبرة والإلقاء والحركات التمثيلية وحركة الجسد.
– التحوير والتبديل؛ فما يُنقل شفويًا يتعرض للإضافة أو الحذف وتغيير الحبكة السردية لأغراض أخرى.
إن كان لثقافة المشافهة من إيجابية فهي تحافظ على روح الجماعة والتواصل المباشر، وتسمح بحرية الإبداع الروائي والسردي، وتقوي الذاكرة. وتكمن سلبياتها في ضياع كثير من التفاصيل مع مرور الوقت، وتحريف وتشويه بعض الحقائق، وصعوبة التوثيق العلمي.
في السودان، ثقافة المشافهة ما تزال مؤثرة جدًا رغم انتشار التعليم والكتابة وتطور وسائل الإعلام الحديثة. ومن مظاهرها: الحكاية الشعبية التي تُروى في القرى والمجالس في الليالي، والغناء والدوبيت الذي يتناقل شفويًا، وكذلك الأمثال والحِكم التي يعتمد عليها السودانيون في تفسير المواقف، بالرغم من تناقض بعضها.
أما المجالس (الضرا، الراكوبة، الديوان، الدكان، القهاوي) فهي أماكن لتبادل الأخبار والقصص، مما يجعل المعلومة تنتشر أكثر من وسائل الإعلام الرسمية.
ثقافة المشافهة هي سلاح ذو حدين؛ فهي وعاء للذاكرة الجمعية والهوية الثقافية (لهجات، شعر، عادات، قيم) والقيم الروحية والأخلاقية. ومن جانب آخر تمثل تحديًا للتوثيق والبحث الأكاديمي.
لقد كان لثقافة المشافهة وما يزال تأثير كبير في تشكيل الرأي العام، وذلك بحكم الطبيعة الاجتماعية للمجتمع السوداني؛ فالمجالس واللقاءات ساحات لتبادل الأخبار، والطرق الصوفية يلعب شيوخها دورًا بارزًا في نقل الرسائل الشفهية وتوحيد المواقف تجاه الأحداث السياسية والاجتماعية، وتُستقبل كلماتهم بقداسة.
كما أن الزعامات القبلية (ناظر، عمدة) والاجتماعية في المجتمعات الريفية والقبلية، تصل كلمتها بسرعة وتُعتبر مرجعًا وأداة في حشد الناس وتوجيههم. وفي ذات المجتمعات تلعب الأغاني الشعبية والدوبيت وسيلة فعالة لتوجيه الرأي العام إذ تحمل رسائل سياسية واجتماعية تتداول شفويًا.
خلال الثورات والانتفاضات اعتمد السودانيون على الكلمة الشفهية والشعارات والهتافات والزغرودة والنداءات في الأسواق، والتنسيق الشعبي، والأحاديث في المواصلات، والندوات، والجامعات، والأحياء، والمواكب كوسيلة لتوحيد المواقف وتعبئة الجماهير.
تظل الكلمة المنطوقة وثقافة المشافهة، حتى مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، أداة لتعبئة الناس ونقل القيم وتشكيل المواقف وصناعة الوعي العام
Leave a Reply