
د.امتثال بشير
#ملف_الهدف_الثقافي
وطني يجوعُ ولا أراهُ بعيني
بل أراهُ يبلعُ القهرَ ويَصمتُ!
نزار قباني
في خطوة فُرضت بلا حوار أو مقدمات، أقدمت الحكومة الحالية، إمعانًا منها في تكريس خيبة الأمل، والتمسك بالسلطة، واغتيال الوطن باسم الوطنية، وتأكيدًا لمشاعر القهر والتغريب، على تغيير اسم وزارة التربية والتعليم إلى وزارة التعليم والتربية الوطنية.
تغييرٌ قد يبدو شكليًا، لكنه في جوهره عميق الدلالات، يكشف عن مشروع مستمر لتشويه هوية الدولة وتجريد الأجيال من حقهم في وطن يُربَّون لأجله. إنها ليست مجرد وزارة يُعاد تسميتها، بل سياسة تعيد إنتاج الخراب بمسميات وطنية مخادعة.
والحال الذي لا يخفى، ولا يحتاج إلى شرح أو تفنيد، هو الواقع الذي تعيشه البلاد ويكتوي به عموم العباد منذ سنوات، في ظل حكومة يتوالى ويتناوب فيها اللصوص دون تغيير في الجوهر؛ حكومة ترفع شعارات براقة وتمارس في الخفاء كل أشكال الإقصاء والتجريف الممنهج لمؤسسات الدولة، وعلى رأسها مؤسسة التعليم، ذلك القطاع الحيوي الذي لم يسلم من العبث والتسييس والانحدار.
وبينما كان المنتظر من أي سلطة حريصة على الوطن أن تعيد بناء المنظومة التعليمية بما يخدم الإنسان السوداني ويرتقي بوعيه، فوجئنا مؤخرًا بإعلان ورقي محتواه لجنة مختارة من زمرتهم لمراجعة المناهج، يتصدّره قرار تغيير اسم وزارة التربية والتعليم إلى وزارة التعليم والتربية الوطنية خطوة لم يُفسرها أحد، ولم تُعرض للنقاش، وكأنها إجراء إداري بسيط لا يمس جوهر الدولة ولا عقول الأجيال.
لكن الحقيقة التي لا يمكن تغطيتها بمساحيق “الوطنية” الزائفة أن هذه الحكومة، امتداد لنظامها السابق، لا تؤمن بالتربية الحقيقية، ولا بالوطن الذي يُربَّى المواطن لأجله. فكيف نتحدث عن “تربية وطنية” في وطن لم يعد يوفر الكرامة، ولا الأمن، ولا حتى الحق في التعليم الأساسي؟
كيف نربي الأجيال على حب وطن سُلب منهم عنوة، وتحكمه قلة لا تؤمن بالتنوع ولا تعترف بالحقوق؟
إن تغيير اسم الوزارة ليس سوى حلقة جديدة في مشروع التآمر والتلاعب بالوعي، واستبدال المضامين الحقيقية بشعارات فارغة. و”التربية الوطنية” التي يروجون لها لا تُبنى على خطابات جوفاء، وإنما على مؤسسات قوية، ومناهج عادلة، وبيئة تعليمية حرة تنمي التفكير النقدي وترسخ قيم المواطنة والعدالة.
ولعلّ السؤال الأهم: أي وطن تُراد له هذه “التربية الوطنية”؟
هل هو وطن جميع المواطنين الشرفاء؟ أم وطن مختطف من فئة تتبادل السلطة وتقصي الآخرين؟
هل هو وطن التنوع الثقافي والسياسي؟ أم وطن الصوت الواحد والحزب الواحد والولاء الأعمى؟
إن من يقصي المعلمين، ويهين الطلاب، ويهمّش الأسر، لا يمكن أن يبني وطنًا ولا أن يربي أجيالًا. ومن يعجز عن توفير كتاب مدرسي، أو وجبة مدرسية، أو بيئة تعليمية آمنة، لا يحق له الحديث عن “تربية وطنية”.
ختامًا: نحن لا نرفض المصطلحات من فراغ، بل نرفض أن تُزج المصطلحات الجميلة لتغطية القبح. نرفض أن يُسرق الوطن مرتين: مرة حين جرى تخريبه، ومرة حين يُراد إعادة بيعه باسم الوطنية.
وكما قال شاعرنا محمود درويش في نقده الصريح للوطنية المصطنعة:
وطني ليس حقيبة
وأنا لست مسافرًا
Leave a Reply