الفنان الدرامي والمسرحي غدير ميرغني لـ”الثقافي”: “الحل في الفن”.. المسرح أداة للمقاومة وواجهة ضد خطاب الكراهية

صحيفة الهدف

لا للحرب.. “الحل في الفن” وعدم الاستعلاء وقبول الآخر وثقافته

* المسرح منبر للوعي وأداة فاعلة لتحويل المشكلات الصامتة إلى نقاش مجتمعي

* “الإنقاذ” حاربت الفنون والمبدعين، لكن سياسة القمع علّمتنا أن الفن أداة حقيقية للمقاومة

* الفنان روح المجتمع ولسانه، عليه أن يواجه الواقع بوعي وإبداع، وليس بالتزلف أو الصمت

غدير ميرغني، فنان موهوب ودرامي مجيد، نشأ في قلب أم درمان، حيث الحواري القديمة تفيض بالحياة وأصوات الراديو تملأ البيوت. منذ صغره تعلق بالحكايات الشعبية التي كانت ترويها جدته، ومن هنا بدأت شرارة عشقه للفن والإذاعة والمسرح. تربى في بيئة محفزة على الإبداع، بين الحارة السابعة ومكتباتها وجمعياتها المسرحية، وحرص منذ سنواته الأولى على صقل مهاراته في الدراما والموسيقى والتمثيل بالعلم والتدريب، حتى أصبح أحد أبرز نجوم المسرح والإذاعة في السودان. لم يكن هدفه الشهرة أو المال وإلا لنالهما، بل خدمة المجتمع ونشر رسالة الفن الجاد والمسؤول.

قدّم غدير خلال مسيرته أعمالاً مسرحية وإذاعية محترمة ومؤثرة، تعكس قضايا المجتمع، وأسهم في أصعب الظروف في تدريب الشباب والفتيات، محوّلاً المسرح إلى أداة للتنوير، وللسعي نحو السلام، ولمواجهة خطاب الكراهية. على مدى مسيرته، جمع بين الموهبة والإبداع والالتزام بالرسالة، ليصبح صوتاً للفن الحر في مجتمع مضطرب، ونموذجاً للفنان الواعي الذي يؤمن بأن الجمال والإبداع قادران على تغيير الناس والمجتمع نحو الأفضل.

حدثنا عن طفولتك واللحظات الأولى التي رسمت بدايات عشقك للفن والإذاعة؟

– أنا ابن أم درمان، ولدت ونشأت في الثورة، ودخلت مدرسة الحارة السابعة الابتدائية، ولهذا الحي وأهله، وجلّهم من المبدعين، تأثير كبير عليّ. كنت مرتبطاً منذ الصغر بسماع الراديو في البيت من الصباح وحتى النوم. أحببت الأحاجي التي كانت تحكيها جدتي فاطمة بنت أحمد، حفظت الكثير منها، وكنت أدمن سماعها ليلاً ونهاراً. هذه البداية شكّلت رؤاي الفنية وقادتني إلى عالم الفن والثقافة منذ الصغر.

ما الذي جذبك إلى المسرح والفنون، رغم أن ميول الشباب وقتها كانت تختلف؟

– المدرسة كانت تعج بالنشاط، بها الجمعية الأدبية وجرائد الحائط، والغناء والتمثيل. ولما كنت “كيشة” في الكورة، وشاطر في القراءة ومطالعة الكتب والقصص، فقد وجدت ضالتي في رابطة الأمل للآداب والفنون بالحارة السابعة، والتي حوت مكتبة للقراءة والاستلاف وجمعية للمسرح والفنون، كانت تقيم المعارض وتقدم الليالي الفنية. وجدت نفسي في خضم كل ذلك وجزءاً منه. ولحسن حظنا فقد تدربنا وقتها على يد خريجي الدفعة الأولى من قصر الشباب والأطفال ودرسنا الدراما، ثم التحقت بقصر الشباب والأطفال قسم الدراما وأنا بعد صغير. لذلك كنت أعرف وأنا في المرحلة المتوسطة أنني سأتجه بعد الثانوي للمعهد العالي للموسيقى والمسرح. لقد حسمت أمري منذ الصغر، خاصة وإني مُلم بأبجديات الدراما من تمثيل وإخراج، إضافة إلى دراستي الموسيقى أيضاً منذ الصغر. أهلي لم يكن لهم أي علاقة بالفنون، عدا أخي الأكبر الذي كان يغني. لم يعارضوا اختياري للفن أبداً، ومنحوني مساحة للتطور بحرية.

هل شكلت الفترة الصعبة التي درست فيها الدراما زمن “الإنقاذ” تطويرًا لجينات الإبداع ومقاومة القيود على حرية الفن؟

– أيام الإنقاذ كنا طلاب دراما في الجامعة، سلطة الإنقاذ كانت ضد الفن والفنانين. أُغلقت كلية الدراما، حاربوا الفرق الفنية والموسيقية والدرامية، حاربوا الشعراء والتشكيليين والكتاب وكل مبدع، تلك الفترة شهدت تهجير وهجرة الكثير من الفنانين. مع ذلك، كانت محاربة الفن دافعاً لمن بقي للإبداع والإنجاز. سلطة المنع والقمع كانت سبباً لنبتكر طرقاً مختلفة لتوصيل الرسائل رغم القيود. الحصار السياسي علّمني الصبر والإبداع، وعلّمني كيف يكون الفن أداة مقاومة وحقيقية.

كيف استطعت تحويل المسرح والدراما إلى أدوات تعليمية وتوعوية تخاطب المجتمع بطريقة نافعة؟

– لحسن حظي، حظيت بفرصة التدريس في جامعة الأحفاد للبنات، حيث درّست الدراما للطالبات كمادة اختيارية، وأعددت مناهج لتدريب مشرفات رياض الأطفال على مسرح الطفل، وأخرى لمسرح تعليمي لطالبات التنمية الريفية لاستخدام الدراما كوسيلة لنقل الرسائل بأسلوب ممتع ومقبول اجتماعياً. كوّنت جمعية المسرح وساهمت في إدخال الدراما كوسيلة ناجعة في رحل الإرشاد الريفي، كذلك قدمت أعمالاً مسرحية تفاعلية لمكافحة العادات الضارة، بجانب كوني متطوعاً في التدريب والتدريس بقصر الشباب والأطفال. هذه التجارب أكسبتني خبرة كبيرة في تدريب التمثيل العملي، أنا الآن مدرب عالمي، حصلت على اعتماد من المعهد الدولي للمسرح، وقمت بالتدريب أيضاً في بنغلاديش ومصر.

قدمت أعمالاً مهمة مع المسرح القومي وعبر الإذاعة والتلفزيون، حدثنا عن أبرزها؟

– كنت من أوائل الذين قدموا أعمالاً للفرقة القومية للتمثيل، منها “وجه الضحك المحظور” تأليف الراحل هاشم صديق وإخراج سعد يوسف. هذه المسرحيات قدّمتني كممثل أيضاً. الإذاعة كانت وما زالت بيتي الثاني، ارتباطي بالإذاعة عشق مُقيم، هذا الارتباط وفّر لي أيضاً فرصة التعلم على يد أساطين الفن الإذاعي، وهذا مصدر فخر كبير جداً عندي. تتلمذت وعملت مع محمد خيري أحمد، عوض صديق، عثمان محمد صالح، حاكم سلمان، حسبو محمد عبد الله، قرني، الهادي صديق، الشبلي، بلقيس عوض، فتحية محمد أحمد، نفيسة ورابحة محمد محمود، سناء المغربي، حياة طلسم، مكي سنادة، إبراهيم حجازي، الهادي صديق، محمد شريف علي وغيرهم كُثر، شفت أنا محظوظ كيف!. ومع جميع مخرجي الدراما الإذاعية من لدن صلاح الفاضل وإنت جاي. أحببت الإذاعة جداً وأصبحت بيتي، ولي بها أعمال ومسلسلات وذكريات لا تُنسى. في التلفزيون قدمت فيلم بعنوان “هذا البريق” وتوالت الأعمال، منها أفلام لم تُبث حتى الآن. كل تجربة أضافت لي خبرة ومهارة في الأداء والتمثيل، وعززت قدرتي على نقل الفن بطرق مختلفة بتعدد الوسائط.

ما الأقرب إلى قلبك من أعمال؟

– تجربة “جماعة النفير المسرحية” كانت وستظل الأقرب إلى قلبي. قدمنا عروضاً لمساعدة المتضررين من السيول والأمطار، وطُفنا معظم السودان بالعروض في الميادين والمزارع والأحياء. توقفت التجربة بعد التخرج بسبب الظروف الحياتية والسياسات المعادية للفن، هذه التجربة علمتني كيف يكون المسرح أداة فاعلة لخدمة المجتمع، أتمنى تكرارها.

كيف ترى علاقة الفنان بالساحة السياسية في السودان؟

– السياسي غالباً ينزعج من الفنان لأنه يفضحه ويكشف الواقع. الفنان الحقيقي لا يطبل ولا يمدح السياسي، بل يقدم ما يفيد مجتمعه. في الفترات الكالحة من تاريخ الأمم مثل ما نمر به اليوم، يختفي الفنانون والكتاب الحقيقيون، انظر حولك الآن “القونات” والمخنسون يتصدرون المشهد، الصحافة يمسك بأقلامها المطبلون والنفعيون.

واجهت كما آلاف السودانيين ظروفًا معقدة في السنتين الماضيتين.. خبرنا عن تجربتك أثناء الحرب وكيف واجهتها؟

– داهمتنا الحرب وأنا في الإذاعة السودانية، كنا نسجل عملاً مع الفنان محمد شريف علي، خرجنا بأعجوبة، وبدأت رحلة النزوح. كنا نسمع ونشاهد عن الحرب ولكن لم يدر بالخلد أننا سنعيشها واقعًا. تجربة الحرب مريرة، وتجربة النزوح مريرة جداً، خاصة إن كنت أباً أو تعول أسرة، لكن رغم مرارتها استفدنا منها. قدمت عروض مسرح تفاعلي في أي مكان متاح، دربت الشباب والأطفال في دور الإيواء وأماكن النزوح، ناقشنا خطاب الكراهية الذي أوصلنا لهذه الحرب، وعملنا فيما نعلمه ونعرفه. نحن لا نجيد القتل والكراهية بل نسعى للمحبة والسلام، وللآن أواصل في تقديم الورش والعروض المسرحية والتدريب الدرامي. تجربة النزوح فتحت عيني على نعمة العيش التي نتمتع بها، وخلتني أحس أكثر بالآخرين، وأضع للناس أعذارهم، وورّتني كيف يستغل الإنسان أخاه وظروفه، والعكس أيضاً، تجربة بالدنيا، استفدت منها حياتياً وعلّمتني الكثير، وللآن الحرب تدور وأنا نازح في بلدي..

ما أثر المسرح الذي قدمته وتقدمه الآن، وكيف يتفاعل معه الجمهور؟

– في ظل الحرب وفي مناطق القتال من الصعب أن تمارس أي نوع من الفنون بشكل محترف، لكن تمكنا من العمل مع نازحي الحرب، الفنون خاصة الدراما تقدم لهم الكثير، معاناتهم مشاكلهم، أسباب ما حدث، كيفية العلاج، تعطيهم فرصة للمناقشة وتقديم تجاربهم وهذا بمثابة علاج ودعم نفسي مفيد. دور الإيواء يتوفر بها الجمهور الذي عانى ويعاني من ويلات الحرب، لذلك ركزنا عليها وعلى ويلاتها. كثيراً ما ضايقتنا الأجهزة الرسمية، وتم توقيفنا في مرات بأسباب واهية بحجة منع التجمعات، أو بسؤالنا مرات العمل ده قاصدين بيهو شنو ومنو؟ نوع المسرح الذي نقدمه هو مسرح تفاعلي، الجمهور مشارك أساسي فيه. شعرت بتجاوب ومشاركة الناس وتفاعلهم ونحن نقدم عروضنا سواء في دور الإيواء أو في الشوارع، خاصة النساء، لأن أكثر من تضرر من هذه الحرب هم النساء والأطفال. المسرح التفاعلي واحد من أدوات المقاومة التي تستخدم في التنوير، فضلاً عن دوره في توظيف فن الحوار في مواجهة العنف الاجتماعي، حتى من قبل الحرب عملنا على تقديم أعمال عديدة حول واقع النساء وهمومهن ومشاركتهن في المجتمع، كان الهدف تحويل المشكلات الصامتة إلى مواضيع للنقاش المجتمعي الجاد، المسرح يمنح الناس وخاصة النساء منصة للتعبير ويعزز وعي الناس بحقوقهم.

هل ينجح الفن في معالجة قضايا مجتمع كمجتمعنا؟

– نعم، عندي إيمان قاطع ورأي حاسم أن “الحل في الفن” وفي قبول الآخر وثقافته، وعدم استعلاء ثقافة أو لغة على أخرى. لأن من حق أي زول أن يتكلم بلغته ويقدم ثقافته، والدين لا يتعارض مع ذلك كما يصور لنا بعض المتنطعين. عالجنا كثيراً من المشاكل في بلدنا بالفن والغناء والمسرح، أعطوا الفن فرصة، وأعطوا النساء فرصة. اسمعوا الأطفال، اسمعوا الذين قاموا بالثورة وطردوا الإسلاميين، ولا تُجبروا أحداً على ما لا يريد، هذا حقهم في الحياة. نعم، الحل في الفن والثقافة والعلم، وانتشار المعرفة لمحاربة الجهل، وهذا يتم بالفن، وبالدراما تحديداً.

الصورة اليوم قاتمة، ما الدور الذي يقع على عاتق الفنانين في هذا الواقع المغلق؟

– الفنانون عليهم دور كبير جداً في هذا الواقع، في فضح الزيف الحاصل، ونشر التوعية والمعرفة، الآن وفي هذا الوقت دور الفن الفعلي هو محاربة الموت المجاني ومجابهة لغة الحرب بالسلام والأمان. على أي فنان أن يقدم ما يعرفه، أن يستغل موهبته ومعرفته وقدراته ومحبة الناس له لنشر الوعي. ربنا خلقنا لنعيش هذه الحياة ونعمر الأرض ونزرع ونحصد خيراً لنا وللناس، لا لنقتل أو نكره أو ننشر القبح. الفنان هو قائد وموجه لمجتمعه، هو روح المجتمع ولسانه رغم الصعوبات، ما زلنا محاربين، لكن يبقى المهم أن يظل ما نقدمه من عمل فني نافعاً للناس، فالفن الحقيقي يبقى ويؤثر، والزبد يذهب. يجب على الفنان أن يواصل تقديم ما ينفع المجتمع ويحافظ على رسالته رغم كل التحديات.

كيف تقيم مسيرة الجيل الجديد من الفنانين المسرحيين؟

– مؤسف حال الجيل الجديد من الممثلين، اعتمدوا على وسائل التواصل سبيلاً للوصول، ظنوا أن النكتة و”ناس النكات” هم أهل الفن والدراما، في اعتقادي أن بعض النكات ساهمت بتوجيه من أهل الإنقاذ في نشر التعصب القبلي. الفرق كبير بين النكتة والمسرح. كثير من الفنانين الجدد وبعضهم من الدارسين شبّوا وهم يظنون أن أقصر طريق للشهرة والمال هو النكتة، الدخول للكلية اليوم أصبح يعتمد على المجموع لا على الموهبة. ظنوا أن من يملك المال يمكنه أن يفعل أي شيء ويعرضه على الإعلام ليصبح مشهوراً. لم يفهموا أن الفن رسالة، وليس الغرض منه الشهرة أو المال أو الإعجاب، من المهم كي تصبح فنانًا أن تقدم ما ينفع الناس ويفيد الوطن.

لديك اهتمام خاص بمسرح الطفل؟

– أنا شغوف بمسرح الطفل وأراه وسيلة تربوية فعالة، فالطفل يتعلم بالتمثيل واللعب. كنت من أوائل من قدموا أعمالاً للأطفال في قسم التمثيل والإخراج، وأسعى لجعل تدريس الدراما والفنون إجبارياً في المدارس. لدي منهج معتمد لتدريب مشرفات ومعلمي الأطفال على المسرح والعرائس، وأعد أعمالاً إذاعية مسرحية لهم. أعمل مديراً لمسرح قصر الشباب والأطفال ومديراً للإدارة الفنية، وأدرب الشباب والمجتمع عبر ورش مسرحية. أؤمن أن المسرح حياة، ويحرّك جمود الطفل والمجتمع معاً.

كيف يسهم غدير الآن في نشر خطاب “لا للحرب” ومواجهة خطاب الكراهية ومشكلات المجتمع من خلال الفن؟

– أقدّم ورشاً للنساء والفتيات والشباب في فن التعامل مع الآخر ومخاطبة خطاب الكراهية، وأدرب على تقديم مسرح تفاعلي تشاركي يناقش قضايا المجتمع، وأقدّم مسرحاً تفاعلياً في أي مكان متاح مع الجمهور. سأستمر في ذلك، نحن نلمس ونشعر بنجاحنا حين نقدم العرض ونشارك الجمهور همومه. لا نسعى للشهرة، ما يهمنا أن يستفيد المجتمع مما تعلمناه، وأن نناقش مشاكل مجتمعنا، هذه الكراهية المتفشية وخطاب الموت والقتل. “لا للحرب” بالنسبة لي يعني وقف الموت وتحريم قتل الروح التي حرّم الله إلا بالحق، وتفهم الآخر وقبول ثقافته، ومحاسبة المذنب، وأن يعمل كل في مجاله بما يفيد الوطن. الله محبة وسلام، ما خلقنا لنفني بعضنا أو لنبغض بعضنا، ولا لنتفاخر بلون أو لغة أو جهة، بل لنعمر الأرض ونرفع شأن بلادنا.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.