
طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
#ملف_الهدف_الثقافي
ليست الحرب في السودان مجرد معركة على السلطة بين جنرالات، بل هي عملية إبادة ممنهجة للجمال. هي اقتلاع لأشجار الذاكرة، وتشويه للوحات الأحلام، وتحطيم لنوتات الأمل. وفي هذه اللحظة المصيرية، حيث يعلو صوت الرصاص على صوت العقل، يصبح السؤال موجهًا بقوة إلى حملة الفرشاة والقلم والنوتة: أين أنتم؟
لماذا نطلب من المثقف والفنان والأديب أن يتحدث، وهو الذي قد يبدو أبعد الناس عن ساحات القتال؟ لأن الحرب، في حقيقتها، هي حرب على المعنى نفسه. هي محاولة لفرض واقع وحيد، قاتم، خالٍ من أي تعقيد أو ظل أو لون. وهي، لذلك، تعلن العداء الأبدي للمثقف الذي يرى العالم بتعددية، وللفنان الذي يخلق من الفوضى جمالًا، وللأديب الذي يحكي حكايات لا تنتهي.
المثقف ليس (رفاهية).. هو (ضمير)
في أوقات السلم، قد يُنظر إلى الإبداع كـ(رفاهية) أو (تكميل جمالي) للحياة. ولكن في زمن الحرب، يتحول هذا الدور إلى ضرورة وجودية. المثقف هو الضمير الجمعي للوطن و الامة العربية. مهمته ليست تقديم حلول سياسية جاهزة، فهذا شأن السياسي، بل مهمته هي إنقاذ اللغة من الابتذال، وإنقاذ الذاكرة من النسيان، وإنقاذ المستقبل من اليأس.
عندما تختزل الخطابات السياسية الإنسان السوداني إلى مجرد (نازح) أو (ضحية) أو (رقم)، يأتي دور الأديب ليعيد له سردية إنسانيته الكاملة، بآلامه وأحلامه. عندما تحول الحرب المدن إلى ركام رمادي، يأتي دور الفنان التشكيلي ليرسم على جدار الخراب لوحة تذكرنا بأن الحياة كانت هنا، وستعود. هذه الأفعال ليست هامشية؛ إنها مقاومة بالمعنى.
– الفنانون التشكيليون: مقاومة باللون في زمن الرماد:
يا أصحاب اليد التي تحول الفكرة إلى لون وشكل، انظروا إلى ما تفعله الحرب. إنها تمحو جمال الأرض والإنسان. وأنتم، وحدكم، من يملكون سلطة استعادة هذا الجمال، ولو على الورق.
ارفعوا ريشاتكم كأعلام مقاومة: لِتُنظّموا معارضكم في الميادين العامة، تحت عنوان (ما تبقى من جمال). ارسموا مدني التي تتشبث بالحياة، ارسموا وجه طفل دارفور الذي لا يزال يبتسم.
لا تنتظروا صالات العرض: اجعلوا من جدران المدن المتحطمة لوحاتكم. الفن في زمن الحرب يجب أن يهرب من المتاحف إلى الشوارع، ليصبح سلاحًا يوميًا في مواجهة القبح.
– الأدباء والكتّاب: كلماتكم سقف للمظلومين
يا من تحكون، تذكرون، تنتقدون، وتصنعون من الحروف عوالم. الحرب تريد أن تسود لغة واحدة: لغة التهديد، التكفير، التفجير. وأنتم حراس التعددية اللغوية، حراس السرديات المتنافسة التي تصنع حقيقة غنية.
اكتبوا القصص، وليس البيانات: اكتبوا قصة الجندي الذي يرفض إطلاق النار، قصة الأم التي تطعم أبناء جيرانها، قصة الطبيب الذي يعالج الجميع. هذه القصص هي التي تحطم (الرواية الواحدة) التي تروج لها آلة الحرب.
أنشئوا (مكتبة المقاومة): جمّعوا شهادات الناس، اصنعوا أرشيفًا للحرب من منظور الضحايا، قبل أن يُكتب تاريخها من منظور المنتصرين.
٤. الفنانين المسرحيين والموسيقيين: صوت الحياة في زمن الموت
يا من تمسكون بالعود والناي، يا من تتحركون على الخشبة. الحرب تصدر أعلى الأصوات، وأنتم من يملكون نعمة الإصغاء إلى الهمس. أنتم من يمكنكم سماع دقات قلب الوطن التي لا تريد أن تموت.
غنوا للحياة: حتى لو كان الصوت يرتجف. أغنية واحدة تنتشر قد تمنح طفلًا شيئًا من الدفء.
قدموا عروضكم في الملاجئ: المسرح ليس مكانًا، بل هو فعل. قدموا مسرحيات تظهر عبثية الحرب، وليس في المسارح، بل حيث يحتشد الناس هربًا من القصف.
خاتمة: لن يكون صوتكم أعلى من القذيفة، لكنه سيبقى بعد أن تتحول إلى صدأ
ليست الدعوة هنا إلى خطاب بطولي ساذج. نحن نعلم أن القذيفة أقوى من القصيدة في لحظة انفجارها. لكننا نعلم أيضًا أن القصيدة ستبقى، بينما ستتحول القذيفة إلى خردة. المثقف لا يوقف الحرب بإصبعيه، لكنه يمنعها من أن تكون الكلمة الأخيرة.
إن توحدكم أيها المبدعون في جبهة واحدة، تحت شعار (كفانا موتًا)، وإطلاق مبادراتكم المشتركة، بيان أدبي، معرض تشكيلي متنقل، أوبريت غنائي، سيكون صاعقًا للضمير العالمي والمحلي. سيثبت أن هناك (سودانًا آخر) لا يريد هذه الحرب، سودان الجمال والفكر والحياة.
لا تنتظروا انتهاء الحرب لتكتبوا عنها. اكتبوها الآن لتُنهوها.
ففي النهاية، لن ينتصر الجنرالات إلا إذا انتصر الصمت. وأنتم حراس الكلمة.
Leave a Reply