التحول الصناعي نحو الاقتصاد الأخضر الابتكار والتكنولوجيا كعوامل تمكين

صحيفة الهدف

منذ الثورة الصناعية الأولى، ارتبطت الصناعة بقدرتها على تسريع التاريخ البشري، لكنها ارتبطت أيضاً بإنتاج تحديات بيئية تهدد بقاء الكوكب. واليوم لم يعد السؤال حول قدرة الصناعة على إنتاج المزيد من السلع، بل حول قدرتها على الاستمرار دون أن تدمر الأرض التي تقوم عليها. نحن أمام ثورة خضراء لا تقل عمقاً عن الثورة الصناعية ذاتها، حيث يتحول النموذج الاقتصادي من (خذ، اصنع، تخلص) إلى نموذج دائري يستبقي الموارد ويعيد تدويرها. هذا التحول ليس ترفاً نظرياً ولا مجرد استجابة لضغوط بيئية، بل ضرورة وجودية، والتكنولوجيا والابتكار هما رافعتاه الأساسيتان.
التكنولوجيا تمثل الجسر الذي يصل بين الاقتصاد والبيئة؛ فالذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء يمكّنان من مراقبة استهلاك الطاقة والانبعاثات في الزمن الفعلي، والبلوك تشين يضمن الشفافية في سلاسل التوريد الخضراء، بينما تفتح الحوسبة المتقدمة آفاقاً لتطوير مواد صديقة للبيئة بسرعة غير مسبوقة. أما الابتكار، فلم يعد مجرد تحسين في المنتجات أو الخدمات، بل أصبح نموذجاً لإعادة تعريف العلاقة بين الإنتاج والاستهلاك عبر الاقتصاد الدائري، ونماذج (المنتج كخدمة) التي تقلل الهدر، وشبكات التعاون المفتوح التي تربط بين القطاعات لإنتاج حلول مستدامة.
الصناعات الكبرى، التي طالما عُدّت جزءاً من المشكلة، بدأت تتحول إلى مختبرات للفرص. ففي قطاع النفط والغاز، بات احتجاز الكربون قادراً على خفض الانبعاثات بنسبة تصل إلى 90%، بينما يبرز الهيدروجين الأخضر كخيار استراتيجي لمستقبل الطاقة. وفي التصنيع، تتيح الطباعة ثلاثية الأبعاد تقليل هدر المواد بنسبة تصل إلى 70%، فيما تمنح الروبوتات الذكية والمحاكاة الافتراضية للصناعات فرصة لإعادة هيكلة الإنتاج بكفاءة بيئية غير مسبوقة.
الأمثلة العملية تؤكد الإمكانات الهائلة: فقد خفضت شركة سيمنس انبعاثاتها بأكثر من النصف منذ 2014 عبر الرقمنة والتحكم الذكي بالعمليات، فيما حولت أديداس النفايات البلاستيكية في المحيطات إلى أحذية رياضية، جاعلة من التلوث مادة أولية لمنتج جديد. وفي الزراعة، أسهمت أنظمة الري الذكية في توفير نحو 30% من استهلاك المياه، بينما رفعت الشبكات الكهربائية الذكية كفاءة الطاقة بنسبة 40%.
الفوائد الاقتصادية لا تقل عن البيئية؛ إذ يؤكد المنتدى الاقتصادي العالمي أن الاستثمار في التقنيات الخضراء قادر على خلق نحو 395 مليون فرصة عمل بحلول 2030، فيما يمكن للاقتصاد الدائري وحده أن يضيف 4.5 تريليون دولار للقيمة الاقتصادية العالمية.
لكن الطريق ليس بلا عقبات: ارتفاع تكاليف التكنولوجيا الخضراء، نقص الكفاءات، ومقاومة التغيير داخل المؤسسات. ومع ذلك، تبقى الحلول متاحة عبر الحوافز الضريبية، والشراكات بين الجامعات والصناعة، وبرامج التوعية التي تعيد تعريف النجاح الصناعي ليشمل البعد البيئي.
إن التحول الصناعي نحو الاقتصاد الأخضر لحظة فارقة في التاريخ الإنساني، تتجاوز المعادلات المالية لتطرح سؤالاً حضارياً: كيف نصنع اقتصاداً ينمو مع البيئة لا على حسابها؟ النجاح مرهون بإرادة سياسية واضحة، واستثمارات جريئة في البحث والتطوير، وشراكات عابرة للحدود. المستقبل سيكون للدول والشركات التي تدرك أن حماية البيئة ليست كلفة إضافية، بل أعظم استثمار اقتصادي وأخلاقي.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.