
منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، باتت الحروب المتكررة هناك تُقرأ ليس فقط في سياقها السياسي والإنساني، بل أيضًا في إطارها الاقتصادي الدولي. فهناك نمط متكرر من المكاسب الغربية التي تتوزع بين مرحلتين واضحتين: مرحلة الحرب التي تشهد تصاعدًا في صادرات السلاح، ومرحلة ما بعد الحرب التي تتحول إلى فرصة استثمارية في مشاريع إعادة الإعمار والمساعدات الدولية. هذا النمط يكشف عن علاقة معقدة بين الصراع والاقتصاد، حيث تتحول المأساة الإنسانية إلى فرصة تجارية.
أولًا: الحرب كفرصة لتصريف السلاح
يُعد العدوان على غزة من أكثر الحروب التي تُستهلك فيها الذخائر والأسلحة الحديثة في بيئة حضرية مكتظة، ما يجعلها ساحة اختبار حقيقية للتكنولوجيا العسكرية الغربية. وتبرز الولايات المتحدة، ألمانيا، وبريطانيا كمصدرين رئيسيين للأسلحة المستخدمة في هذه المواجهات، سواء عبر الدعم المباشر أو عبر عقود بيع طويلة الأجل.
أبرز مظاهر المكاسب الغربية خلال الحرب:
– زيادة الطلب على الذخائر الدقيقة: مثل القنابل الذكية والصواريخ الموجهة، التي تُستخدم بكثافة في العمليات العسكرية داخل غزة، ما يعزز الطلب على الصناعات الدفاعية الغربية.
– الترويج غير المباشر للأسلحة: إذ تُستخدم صور الحرب وتقارير الأداء العسكري كأداة تسويقية لصناعات الدفاع الغربية في أسواق أخرى، خاصة في الدول التي تسعى لتحديث ترساناتها.
– تدوير المخزون العسكري: حيث تُستبدل الأسلحة القديمة بأخرى أحدث، ما يفتح المجال لعقود جديدة بمليارات الدولارات، ويخلق فرصًا لتحديث المخزون العسكري الغربي دون تكلفة مباشرة.
في هذا السياق، تتحول الحرب إلى دورة اقتصادية مغلقة: تصعيد عسكري → استهلاك ذخائر → طلب جديد → أرباح لشركات السلاح. وتُعد شركات مثل Lockheed Martin، Raytheon، وBAE Systems من أبرز المستفيدين، حيث ترتفع أسهمها بشكل ملحوظ خلال فترات التصعيد.
ثانيًا: السلام المؤقت كفرصة لإعادة الإعمار
ما إن تهدأ نيران الحرب، حتى تبدأ مرحلة جديدة لا تقل أهمية اقتصاديًا: إعادة الإعمار. هنا تظهر مؤسسات دولية، وشركات هندسية، ومنظمات غير حكومية غربية لتقود جهود إعادة بناء ما دمرته الحرب. ورغم الطابع الإنساني لهذه المرحلة، فإنها تحمل مصالح اقتصادية واضحة.
أبرز مظاهر المكاسب الاقتصادية بعد الحرب:
– تمويل دولي مشروط: غالبًا ما تُدار مشاريع الإعمار عبر قنوات غربية، مثل البنك الدولي أو الوكالة الأمريكية للتنمية، ما يمنح الغرب نفوذًا ماليًا وسياسيًا في تحديد أولويات الإعمار.
– عقود إعادة الإعمار: تُمنح لشركات أجنبية، خاصة في مجالات الطاقة، المياه، والمباني العامة، ما يخلق فرصًا استثمارية مربحة، ويحول المساعدات إلى عقود تجارية.
– إعادة تدوير المساعدات: حيث تُصرف الأموال على مشاريع تنفذها شركات من الدول المانحة نفسها، فيما يُعرف بـ”المساعدات المرتدة”، ما يضمن عودة جزء كبير من التمويل إلى الاقتصاد الغربي.
وهكذا، تتحول غزة إلى سوق مؤقتة للاستثمار بعد كل عدوان، رغم هشاشة الوضع الأمني واستمرار الحصار. وتبقى مشاريع الإعمار رهينة للتقلبات السياسية، ما يطيل أمد التنفيذ ويزيد من التكاليف، لكنه لا يمنع استمرار تدفق العقود.
دورة اقتصادية متكررة
يتكرر هذا النمط منذ عدوان 2008 مرورًا بعدوان 2012، 2014، 2021، وصولًا إلى عدوان 2023. في كل مرة، تتصاعد أرباح شركات السلاح خلال العدوان، ثم تنتقل المكاسب إلى شركات الإعمار بعد وقف إطلاق النار. وبين المرحلتين، يبقى المواطن الفلسطيني هو الخاسر الأكبر، بينما تتعزز مصالح اقتصادية غربية في ظل غياب حل سياسي دائم.
الغرب بين الربح والتناقض
رغم أن الغرب يطرح نفسه كوسيط للسلام، إلا أن الواقع الاقتصادي يكشف عن تناقض صارخ: الدول التي تبيع السلاح خلال العدوان، هي نفسها التي تمول الإعمار بعد الحرب. ما يخلق علاقة مزدوجة بين التصعيد والتهدئة، تمتد إلى تأثيرها على استدامة السلام، حيث تتحول الحروب إلى فرص اقتصادية بدل أن تُحل جذريًا.
خلاصة تحليلية
إن قراءة عدوان غزة من منظور اقتصادي تكشف عن دورة مصالح غربية مزدوجة: بيع السلاح عند العدوان، واستثمار في الإعمار بعد العدوان. هذه الدورة لا تعكس فقط ديناميكيات السوق، بل تطرح تساؤلات أخلاقية حول دور الاقتصاد في إدامة الصراع وتحويل المأساة الإنسانية إلى فرصة تجارية.
كسر هذه الدورة لا يتطلب فقط وقف إطلاق النار، بل إعادة تعريف العلاقة بين المساعدات، الاستثمار، والسلاح، بما يضمن أن تكون غزة ساحة للسلام والتنمية، لا مختبرًا دائمًا للمكاسب الاقتصادية العابرة للحدود.
Leave a Reply