سلسلة الأمراض الحيوانية التي تؤثر على صحة الإنسان داء البروسيلات في السودان – الوباء الصامت وتشابك مصير الإنسان والطبيعة (2)

صحيفة الهدف

ما إن تخطو بقدميك خارج المدن السودانية المزدحمة، حتى تغمرك رحابة المنظر الريفي، حيث تنتشر قطعان الماشية كالنقاط على لوحة طبيعية خلابة. هذه الثروة الحيوانية ليست مجرد منظر جمالي، بل هي عماد الاقتصاد وعصب الحياة ورمز للتراث. لكن تحت هذه الصورة الهادئة، ينتشر وباء صامت يختبر قوة هذه الرابطة بين الإنسان والحيوان، ويُجسّد بتشابكاته المعقدة مأساة وجودية حديثة: إنه داء البروسيلات (الحمى المالطية). هذا المرض لا يقتصر على كونه عدوى بكتيرية (بروسيلا) تنتقل من الحيوان إلى الإنسان، بل هو نموذج حي ومأسوي لانكسار ذلك العهد القديم الذي كان يعتمد على التوازن، ليحل محله تنافٍ مرير حيث يصبح مصدر الرزق نفسه مصدرًا للعذاب.
المرض كظل للحضارة: عندما تتحول النعمة إلى نقمة
يُصيب داء البروسيلات الحيوانات، الإبل، الأبقار، الماعز، ليس كطاعون يفني القطعان، بل كعدو خفي يقوض أسس الحياة نفسها. يتجلى ذلك في الإجهاض كأبرز أعراضه، وهو رمز قاسٍ على انقطاع دورة العطاء. فالمرض لا يقتل فحسب، بل يمنع الحياة الجديدة، ويضعف النسل، ويقلل إنتاج الحليب، ذلك السائل الحيوي الذي يجسد العطاء الخالص. هنا، يتحول الحيوان، الذي كان يمثل الأمان الاقتصادي والعاطفي، إلى ناقل لعدوى تهدد صاحبه.
الانتشار المرتفع في الخرطوم والولايات الوسطى والشمالية وسنار (حتى %10 بين البشر) ليس مجرد رقم إحصائي، بل هو دليل على عمق التماسك المجتمعي الرعوي، حيث أن العلاقة الحميمة بين الراعي وقطعانه هي نفسها قناة الانتقال الرئيسية، سواء عبر استهلاك الحليب غير المبستر أو عبر الاتصال المباشر بسوائل الحيوانات المصابة.
على الجانب الإنساني، تتجلى المأساة في خبث الأعراض. فهي لا تأتي صاعقة، بل تتسلل كالضباب: حمى متقطعة، تعرق ليلي، آلام مفاصل مُوهنة، وإرهاق يسرق الطاقة. إنها أعراض تشبه أعراض الأمراض المزمنة الأخرى، مما يؤدي غالبًا إلى سوء التشخيص أو الإهمال. ولكن اللعنة الحقيقية تكمن في إصابة الفرد في ذروة عطائه، بين سن 25 و40 عامًا، ليصبح هذا الإنسان، عماد أسرته وقوة مجتمعه المنتجة، عالةً صحياً واقتصادياً، غارقًا في دوامة علاج طويل بالمضادات الحيوية قد يمتد لثلاثة أشهر أو أكثر.
الأثر الاقتصادي: تآكل رأس المال البشري والطبيعي
لا يمكن فصل الأثر الصحي عن الأثر الاقتصادي، فكلاهما وجهان لعملة واحدة متآكلة. الخسائر في القطاع الحيواني هي خسائر في رأس المال الوطني. كل إجهاض في بقرة أو ماعز هو خسارة لمستقبل القطيع. انخفاض إنتاج الحليب هو نقص في الغذاء والدخل. وتكاليف المكافحة من فحص وتطعيم هي أموال تُسحب من جيوب مربي الماشية الفقراء أصلاً، أو من ميزانية دولة تعاني من أزمات متعددة.
أما على المستوى البشري، فإن تحول المعيل إلى مريض مزمن يخلق دوامة من الفقر. انخفاض إنتاجية القوى العاملة لا تعني فقط دخلًا أقل للأسرة، بل عبئًا أكبر على نظام صحي هش. وهنا يبرز أحد أكثر المفارقات قسوة: المجتمعات التي تعتمد بشكل أكبر على الثروة الحيوانية هي الأكثر عرضة للمرض، وهذا المرض نفسه هو الذي يقوض أساس هذه الثروة ويدفع هذه المجتمعات إلى هاوية الفقر والمرض، في حلقة مفرغة من المعاناة.
نحو فلسفة “الصحة الواحدة”: الخيط الذي ينقذ النسيج الممزق
محاولة فهم داء البروسيلات في السودان من خلال عدسة طبية بيطرية ضيقة أو اقتصادية بحتة هي محاولة فاشلة. فجذور المشكلة أعمق من ذلك. هذا المرض هو التجسيد الأوضح لفشل النهج القطاعي المجزأ. إنه يصرخ بضرورة تبني فلسفة الصحة الواحدة، التي ترى أن صحة الإنسان، وصحة الحيوان، وصحة النظام البيئي وحدة واحدة لا تتجزأ.
فالبيئة، التربة الملوثة، والمراعي المشتركة، ومصادر المياه، ليست مجرد خلفية، بل هي لاعب رئيسي في بقاء وانتشار البكتيريا. والحيوان ليس مجرد سلعة، بل حلقة وصل حية بين البيئة والإنسان. والإنسان ليس متلقياً سلبياً، بل هو جزء من هذه الشبكة المعقدة، وتصرفاته (مثل استهلاك الحليب غير المبستر) هي التي تغذي دورة المرض.
لذلك، فإن الحل لا يكمن في مضاد حيوي أقوى أو حملة تطعيم للحيوانات فحسب، بل في إعادة تخيل العلاقة بين الإنسان والطبيعة التي يعتمد عليها. يتطلب النجاح تنسيقًا وجوديًا بين الطبيب البيطري الذي يحمي القطيع، والطبيب الذي يعالج الإنسان، والمختص البيئي الذي يحافظ على نقاء المراعي والمياه، والمزارع الذي يتعلم ممارسات أكثر أمانًا. إنه نهج يعترف بالترابط المصيري.
خاتمة: داء البروسيلات في السودان هو أكثر من مرض؛ إنه قصة رمزية عن تحديات العصر. إنه يذكرنا بأن تقدمنا الهش مهدد عندما نهمل الأساس الذي نقوم عليه: التوازن مع الطبيعة. إنه وباء صامت لأنه لا يسبب ذعرًا جماعيًا، بل ينتشر بصمت، مضعفًا للأجساد والاقتصادات وروابط الثقة بين الإنسان والكائن الذي استأنسه منذ آلاف السنين.
لكن ضمن هذه الصورة القاتمة، تكمن نافذة أمل. فلسفة الصحة الواحدة تقدم رؤية متكاملة يمكنها أن تحول هذه المأساة إلى فرصة. من خلالها، يمكن للسودان أن يحول مواجهة هذا المرض إلى نموذج للتنمية المستدامة، حيث يؤدي تحسين صحة الحيوان إلى تحسين صحة الإنسان، وحماية البيئة إلى تعزيز الإنتاجية، مما يساهم في النهاية في تحقيق الأمن الغذائي وحماية سبل عيش المجتمعات الريفية، التي تشكل قلب السودان النابض. إن علاج داء البروسيلات هو، في جوهره، عملية استعادة لتوازن فقدناه.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.