التغيير في السودان: إرادة شعبية سودانية وليست أمريكية

التغيير في السودان: إرادة شعبية سودانية وليست أمريكية

                                                                                    علي حمدان

لم يكن مفاجئاً إعلان المبعوث الأمريكي الخاص للسودان برانستون ليمن للفيتو الأمريكي الرافض لإسقاط النظام أو تغييره معتبراً أن إسقاطه لم يعد يمثل مصلحة للولايات المتحدة الأمريكية، يأتي هذا الموقف الأمريكي بعد طول ممانعة ومزايدة وخداع تعبيراً عن رضى أمريكي لنهج وسياسات ومواقف النظام التي اتسمت بالتنازلات والرضوخ والإستسلام أمام الضغوط الأمريكية منذ تسعينات القرن الماضي. ويأتي كمكافأة للنظام الإستبدادي نظير سياساته وخدماته الممتازة للسياسة الأمريكية في السودان والمنطقة، وجائزة كبرى نتيجة دوره في فصل الجنوب والإستمرار في سياسات تفتيت الشمال. ويأتي تعبيراً عن حل أمريكي لأزمة النظام وزعامات القوى التقليدية والنخب الجهوية المسلحة، بغرض استيعابها في سلطة تخدم المصالح الأمريكية . إذن نحن بإزاء حقيقة أزالت الضبابية ونزعت الغطاء عن ( الفزاعة الأمريكية ) التي ظل يستخدمها النظام لتمرير سياسات الإستبداد والتسلط والإفقار والقهر الإقتصادي بهدف تعزيز بقائه في السلطة، وأبانت ملامح دوره المتماهي مع المخطط الأمريكي تجاه بلادنا، وأنهت مرحلة الشيطنة المتبادلة بينهما في إطار تكتيكات الإبتزاز والضغط.

إن القبول الأمريكي بالتعايش مع النظام واحتوائه ظلت قائمة منذ التحاقه بالحرب الأمريكية على الإرهاب مطلع التسعينات، عبر التعاون المخابراتي بينهما التي قدم من خلالها العديد من التنازلات الدالة على إستسلامه للضغوط الأمريكية وكان القبض على كارلوس في الخرطوم وتسليمه لفرنسا وإبعاد أسامة بن لادن إلى أفغانستان قد أشر بداية الإستجابة للخضوع للسياسات الأمريكية ، وعلى هذا الطريق الممهد بالتنازلات جرى تمرير الأفكار التي عبرت عنها ما عرف بالورقة الأمريكية الصادرة عن مركز الدراسات الإستراتيجية الأمريكية لتشكل أداة لخلق وبلورة إتجاهات ولوبيات موالية للسياسة الأمريكية داخل النظام الحاكم وتقبل تمرير الدور الأمريكي الذي ينهض بالأساس لتعويق الجهود الوطنية لإيجاد حلول لقضايا الأزمة الوطنية الشاملة، وتقبل النظام إملاءات المبعوث الأمريكي دامفورث، والتي تعنى بتطوير آليات تدخل أمريكي فعال في السودان لفرض حلول جزئية للقضايا الوطنية السودانية بديلاً لحل وطني شامل وجذري ينطلق من رؤية متكاملة لقضايا البلاد في ترابطها الموضوعي، وفي هذا السياق يعتبر الإقرار بحق تقرير المصير حد الإنفصال لجنوب السودان أبرز معالم الإختراق الأمريكي للسياسة السودانية، وحجر الزاوية في المشروع الأمريكي للسودان والذي أرست لبناته الأولى تفاهمات فرانكورت التي قادها د. على الحاج أحد أهم النافذين في النظام آنذاك. ولم تعد منذ ذلك الحين وحدة السودان شعباً وأرضاً مسلمة وطنية لدى النظام الحاكم وبعض فصائل الحركة السياسية السودانية، سيما وأن حق تقرير المصير في سياقه التاريخي الذى جرى الإتفاق عليه مطلباً وطنياً بقدر ما مثل إرادة أمريكية لإعادة هندسة السودان إنطلاقاً من رؤيتها الإستراتيجية للإقليم والوطن العربي ( سايكس بيكو الجديدة ، تجزئة المجزأ وتقسيم المقسم ) .

إن السياسة الأمريكية تجاه السودان كما عبرت عنها وعكستها العديد من الشواهد ( ورقة مركز الدراسات الإستراتيجية ، تقرير دانفورث وإتفاق جبال النوبة ، تفاهم مشاكوس وإتفاق نيفاشا وغيرها)، هي أبعد ما تكون عن التعبير عن مصالح الشعب السوداني ، وإنما هي ترتبط ارتباطاً قوياً بمصالح أمريكا في السودان وأفريقيا والوطن العربي، خاصة ما يختص منها بما يسمى مشروع الشرق الأوسط الكبير القائم على تفتيت الكيانات الوطنية على أسس قبلية وعرقية .. الخ . والسيطرة والهيمنة على الثروات المعدنية والنفطية والممرات البحرية ومصادر المياه وأمن الكيان الصهيوني. ولم تجد أمريكا لرعاية وتنفيذ هذا المشروع في السودان أفضل من هذا النظام الذي أمعن في إنتهاك الحريات والديمقراطية وإعتماد نهج الخصخصة والإفقار للشعب، وتسعير النعرات القبلية والجهوية وإشعال الحروب الأهلية وتفتيت النسيج الإجتماعي ، فكان أكثر فعالية وحماساً في خدمة السياسات والمصالح الأمريكية. وقد حتم عليه توجهه الإستراتيجي نحو التطبيع مع الولايات المتحدة الأمريكية على التأكيد بشكل مستدام في نجاحه وصدق توجهه لخدمة مصالحها، وقد نال بموجب ذلك الثناء الدائم من قبل أمريكا على جهوده في هذا الإطار.

إن النظام الحاكم بعد فشله في إيجاد حلول لمشكلات البلاد بعد أن جردها من مصادر قوتها ودفع بها في أتون الحروب والأزمات المتفجرة، لم يعد يشكل عائقاً أمام حركة التطور الوطني فحسب، وإنما أصبح استمراره في ظل الخضوع للإرادة الأمريكية تهديداً جدياً لأمن بلادنا ووحدتها واستقلالها بسبب استسلامه للمشيئة الأمريكية ومساومته بوحدة بلادنا وبالمصالح العليا للشعب مقابل استمراره وبقائه في كرسي السلطة. إن المتغيرات التي حدثت في واقع الصراع السياسي والإجتماعي بعد إندماج البدائل الزائفة داخل السلطة ( المصالحة، البديل الأمريكي) ، دفعت بإتجاه تعميق الأزمة الشاملة ووضعت بلادنا أمام مفترق طرق ، فتبلور موقف أمريكي راض عن النظام قابل به وبسياساته مستعداً للتعايش معه بعد استئناسه وتدجينه يدفع بشكل تلقائي لنهوض إرادة التغيير الجذري في مواجهة هذا الموقف. لأن المشروع الأمريكي في السودان يتقاطع استراتيجياً مع المشروع الوطني الشعبي للتغيير وهو يقع في دائرة تقاسم المصالح والأدوار مع النظام الحاكم، والذي يخدم بطريقة مباشرة وغير مباشرة هذا المشروع في سبيل بقاء نظامه المتماهي مع المخطط الأمريكي في المنطقة.

إن روح وإرادة التغيير يعززها ويقويها وحدة الإحساس الشعبي العام بالظلم والقهر والفساد والإرتهان لإرادة الأجنبي، وهي ليست منقوصة الدوافع والمحركات، بل يعيشها الشعب في كل تفاصيل وجوده اليومي من الفقر ومعاناة العيش الكريم والبطالة والإستبداد ومعاناة الحروب والتشرد وإهدار الكرامة . فشروط التغيير متحققة واقعياً ومن المؤكد ستحين لحظة تفجرها . فالتغيير بهذا المعنى ليس وصفة أو إرادة أمريكية تطلقها متى شاءت وتعطلها بقرار متى ما أرادت استرضاءاً للنظام وخدمة لمصالحها ، فالتغيير الجذري أفق مفتوح نتيجة تراكم معاناة الظلم والإفقار والتي تأتي السياسات الأمريكية سبباً أساسياً من أسبابها مهما حرصت أمريكا على إبداء النوايا الزائفة بإعلان نفسها كحليف لقوى التغيير الديمقراطي، لأنه لا التجارب التاريخية لأمريكا ولا راهن سياساتها يؤهلانها بأن تكون عنصراً إيجابياً مناصراً لقضايا الشعوب وتطلعاتها في الحرية والديمقراطية والسلام، بل أصبحت استمرارية النزاعات وتغذيتها بكل عوامل الديمومة وإدامة التسلط والتخلف والقهر السياسي والإقتصادي والإجتماعي هي الوجه الآخر لذلك الشعار .

إن الإنسانية المزعومة لأمريكا والتباكي على حقوق الإنسان والديمقراطية والإصلاح ، يفضحها دورها الملموس في التحالف مع الأنظمة الفاسدة والمستبدة ، ويكشف المستهدفات النهائية لمخططها الرامي لتفتيت وحدة بلادنا وضرب نسيجها الإجتماعي وقيم الإخاء والتسامح بهدف تعزيز وجودها السياسي والأمني والعسكري، الذي أصبح مرتبطاً بإستمرار هذا النظام وبقائه. فالأنظمة التي تستنجد بأمريكا وتستقوي بها على شعبها ستنتهي إلى المصير المحتوم، حيث تدوس أمريكا التي تتستر بهذه الشعارات على كل قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة والمساواة والسلام متى ما تصادمت مع مصالحها ومشاريعها.

إن إتساع دائرة الوعي بطبيعة المخطط وقواه وبحتمية التغيير الشامل المكافئ للأزمة الوطنية الشاملة، لايكتفي بمجرد التغيير الفوقي في شكل الحكم وهوية الحاكمين، بل سيحفر مجرى التطورات المستقبلية في البلاد ويعيد تشكيل ملامحها ويتعمق في ظروف مواجهة تزايد المخاطر على وحدة بلادنا واستقلالها، وعلى نحو شامل كإستجابة لحقيقة الموقف الشعبي المناهض للإستبداد والمتطلع للحرية وبديلاً لكل ما هو زائف وطارئ.