
محمد عثمان ابوشوك
دون الخوض في تفاصيل الصراع العربي الصهيوني، هناك حقائق علميه ثابته لا يمكن مغالطتها او تجاهلها عند تناول هذا الصراع ومالاته الحالية والمستقبلية:
الحقيقة الأولى:
أن الكيان الصهيوني القائم على الأراضي العربية الفلسطينية ، هو كيان مصنوع ، صنعته إرادة الدول التي استعمرت المشرق العربي (فرنسا و بريطانيا) و ثبتته وارست دعائمه الولايات المتحدة الأمريكية التي خرجت بعد الحرب العالمية الثانية كوريث لبريطانيا و فرنسا في المنطقة العربية و الأفريقية و العالم اجمع ..اليهود كدين و كشعب لم يكونوا يشكلون اكثر من 1% من سكان فلسطين قبل الحرب العالمية الأولى ، و لم يزيدوا عن 5% من سكان فلسطين حتى بعد الهجرات التي نظمتها الصهيونية العالمية بمساعدة من سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين ..
الحقيقة الثانية:
أن الصهيوني القائم حاليا على أراضي فلسطين، يقوم على أساس ديني، وهو خرافة شعب الله المختار وارض الميعاد.. بموجب هذه الخرافة (التي تمثل استغلالا للدين لتحقيق مآرب سياسية واقتصاديه) فإن الشعب اليهودي هو شعب الله، ان الله قد وعد هذا الشعب بأرض فلسطين كوطن مقدس للشعب اليهودي.. وعليه فان العقيدة الصهيونية تقوم على نفى كل ما هو غير يهودي وعدم قبول أي تعايش بين الأعراق والديانات على ارض فلسطين..
الحقيقة الثالثة:
أن هذا الكيان قام ويستمر على ارض فلسطين دون أي موارد او ثروات طبيعية تمكنه من الاستمرار ككيان ودوله.. فحتى يومنا هذا ورغم التقدم التكنولوجي والاقتصادي الصهيوني، فإن هذا الكيان يعيش ويتنفس من خلال الحبل السري الذي يربطه بالولايات المتحدة الأمريكية التي يتلقى منها مساعدات ماليه مباشره تبلغ سنويا حوالي 3 مليارات دولار، ومساعدات غير مباشره تسمح له بنقل التكنولوجيا والمعارف العلمية من الولايات المتحدة الى الكيان الصهيوني، وتصل هذه المساعدات الى حد تمتع كل يهود الولايات المتحدة وأوروبا بالجنسية الإسرائيلية والسماح لهم بأداء الخدمة العسكرية في الجيش الصهيوني..
الحقيقة الرابعة:
أن هذا الكيان، منذ تأسيسه وحتى يومنا هذا يعمل ويؤسس كل علاقاته الدولية على أساس خدمة مصالح الدول المؤسسة والداعمة لوجوده.. وبالتالي فإن هذا الكيان كان وما يزال وسيظل دائما، حليفا لدول الاستعمار القديم والجديد ومعاديا لحركات التحر في الوطن العربي وافريقيا ودول العالم الثالث..
بناء على هذه الحقائق المجردة يمكننا النظر في السياسة الخارجية الصهيونية، وبضمنها علاقات هذا الكيان بالأنظمة العربية والأفريقية..
كنتيجة منطقيه للحقائق السابقة، يعاني الكيان الصهيوني من معضلات هيكليه تتمثل في:
- العزلة شبه الكاملة في محيطه الجيوسياسي.. فحتى العلاقات التي أسسها مع بعض الأنظمة العربية والأفريقية ودول العالم الثالث غير قادره على فك هذه العزلة بحكم انها علاقات فوقيه مع انظمه دكتاتوريه في غالبها الاعم ولم تصل الى بناء علاقات مع شعوب هذه الدول وقواها السياسية والاجتماعية..
- حتى في ظل هذه العلاقات الفوقية، وبسبب الوجود الجغرافي للأرضي الفلسطينية، فان الكيان الصهيوني لا يتمتع بمنافذ بريه او بحريه تمكنه من تبادل التجارة والتعاون مع دول العالم.. باستثناء اطلالته على البحر الأبيض المتوسط، فان كل الأراضي والمياه الدولية الأخرى تمر بمناطق وشعوب غير مأمونة الجانب، واي تغيير سيأسى في هذه المناطق سيعنى حرمان الكيان الصهيوني من الحركة جنوبا..
- قلة او انعدام الموارد الطبيعية وفي مقدمتها المياه يجعل الكيان الصهيوني مجبرا على التحالف الدائم مع الدول الاستعمارية القديمة والجديدة، ويجعل هذا الكيان في حالة بحث دائم عن حلفاء يعتمد عليهم في الدول العربية والأفريقية ودول العالم الثالث، وبطبيعة الحال لن تكون هذه التحالفات ممكنه مع أنظمة وطنيه وثوريه، الخيار الوحيد المتاح للكيان الصهيوني هو التحالف مع أنظمة رجعيه ودكتاتوريه ومساعدتها على البقاء في الحكم..
- بسبب الطبيعة العنصرية غير القابلة للأخر للكيان الصهيوني، فان هذا الكيان مضطر لتبرير وجوده للبحث عن حلفاء وسط محيطه الجيوسياسي يتيح له خلق نزاعات وحروب ذات طبيعة تفتيتيه للدولة الوطنية في هذه المنطقة
هذه المعضلات الهيكلية هي التي حكمت وتحكم العلاقات الدبلوماسية للكيان الصهيوني تجاه الدول العربية والأفريقية تحديد.. وهي علاقات تحددت أهدافها في فك العزلة عن الكيان الصهيوني وضمان تدفق الموارد والمواد الأولية للكيان وضمان امن الكيان الصهيوني..
العلاقات الصهيونية مع افريقيا تعود الى بدايات تأسيس هذا الكيان.. فمن أوائل الدول التي اعترفت بالكيان الصهيوني كانت جنوب افريقيا (في ظل نظام الفصل العنصري) وليبريا واثيوبيا، وتوسعت هذه العلاقات فيما بعد لتشمل دولا عديده جنوب الصحراء..
يقول الباحث الصهيوني هيرمان بوتايم في العدد الثالث المجلد 17 من دورية التقييم الاستراتيجي الذى تصدره مؤسسة دراسات الامن الوطني في جامعة تل ابيب ، في أكتوبر 2014 (( بصعود الأنظمة العسكرية في العديد من البلدان الأفريقية ، وجد حكام هذه الأنظمة في إسرائيل شريكا جذابا ، لامتلاك إسرائيل الإمكانات التكنولوجية و العسكرية التي تستطيع من خلالها مساعدة هؤلاء الحكام على البقاء في السلطة ..و تمثل التعاون الإسرائيلي الأفريقي في هذه المرحلة في التدريب العسكري و الأمني و تأسيس منظمات شبه عسكريه (ميليشيات) وتزويد هذه الأنظمة بالسلاح .))
ووفقا لبحث هيرمان بوتاي، فان هذه العلاقات تعرضت لنكسه خطيره في اعقاب حرب أكتوبر 1973، إذا قطعت كل الدول الأفريقية علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان الصهيوني او خفضتها للحد الأدنى، فيما عدا دولة جنوب افريقيا العنصرية، وذلك بتأثير الدول العربية وبشكل خاص دول شمال افريقيا، الامر الذي جعل الكيان الصهيوني يعزز علاقاته مع النظام العنصري في جنوب افريقيا، مما قاد الى عزلة أكبر وقطيعة شبه كامله مع بقية دول افريقيا ….
و يشير الباحثان يوبيل قوزناسكى و اوديد اران في بحث لهما حول أهمية افريقيا للكيان الصهيوني نشر في نشرة Insight الصادرة عن نفس المركز في 24 يونيو 2018، أن البحر الأحمر بالتحديد يمثل العمود الفقري للسياسة الأفريقية للكيان الصهيوني ، وذلك لأنه الطريق البحري الوحيد لكل العلاقات التجارية و الاقتصادية لهذا الكيان مع دول اسيا و استراليا ، و بالتالي فان ضمان امن و سلامة هذا الطريق البحري شكل و يشكل هما دائما للسياسة الأفريقية للكيان الصهيوني ، وعليه قامت إسرائيل ببناء وجود عسكري و استخباراتي في ارتريا و اثيوبيا و ذلك لمواجهة الوجود التركي في الصومال و السودان و الوجود الصيني في جيبوتي..
بينما يشير الباحثان الصهيونيان الوفير ونتر ويوقي بن إسرائيل في عدد 24 أغسطس 2018 من نفس النشرة في بحث بعنوان المياه في بلدان النيل من الازمه الى الفرصة السانحة، الى تمتين الكيان الصهيوني لعلاقاته بأثيوبيا ويوغندا ودولة جنوب السودان، كفرصة سانحه لحل مشكلة المياه في الكيان الصهيوني من خلال احياء مشروع الرئيس السادات لنقل مياه النيل الى الكيان الصهيوني عبر قناة السلام، مقابل زيادة العون الفني والتقني في المجلات الأمنية ومجالات تقنية إدارة الموارد المالية..
و من جانب آخر ، أشار الكاتب الصهيوني آري عوديد في كتابه العلاقات الإسرائيلية العربية ، الى ان الكيان الصهيوني في علاقاته مع الدول الأفريقية كان يستهدف دائما فك العزلة الدبلوماسية و الشعبية التي تحيط به و فتح الطريق للاستفادة من الموارد الطبيعية في افريقيا، إلا ان هذه الجهود منيت بنكسات خطيره و ذلك بسبب انانية السياسة الصهيونية ، وتمثلت هذه الأنانية في دعم الكيان الصهيوني للحركة الانفصالية في نيجريا (بيافرا) و مساعدتها فيما بعد للجنرال إبراهيم بابا نجيدا للقيام بأقلاب عسكري دموي في أغسطس 1985، إضافة لعلاقات الصهاينة بالنظام العنصري في جنوب افريقيا و كل الأنظمة الدكتاتورية العسكرية في افريقيا و وقوف أجهزة مخابرات الصهيونية الى جانب هذه الأنظمة ضد حركة التحرر الوطني الأفريقية ..
في ضوء هذا الاستعراض المركز للعلاقات الأفريقية الصهيونية، نحاول قرأه الهدف او الأهداف من إعادة طرح تطبيع العلاقات السودانية الصهيونية..
من الواضح أن مروجي التطبيع مع الكيان الصهيوني ينقسمون الى معسكرين متباينين شكلا ومتفقين موضوعا:
المعسكر الأول يضم اركان النظام و مخططوه السياسيين ،،اذا يعتقد هؤلاء أن التطبيع مع إسرائيل سيساعد على فك عزلة النظام الدولية و سيقفل صفحة المحكمة الجنائية الدولية و رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، الامر الذى سيقود بالنتيجة الى حل الازمه الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد ..هذه المبررات ، فوق انها شديدة السذاجة، تتجاهل أن الكيان الصهيوني لا يتحكم في السياسة الخارجية الأمريكية و انما يعمل معها في خط واحد لتحقيق و تعظيم المنافع المشتركة للجانبين ،،و هذه المنافع لا تتقاطع و انما تتكامل،، فلا يمكن للكيان الصهيوني أن يلعب دورا منفردا بعيدا او بالضد من السياسة الأمريكية ، فالطرفان متفقان في إبقاء سياسة العصا و الجزرة لإبقاء النظام السوداني في الحكم و في بيت الطاعة ..
المعسكر الثاني يمثل في مجموعات غير متجانسة يربط بينها الحديث السطحي عن أن علاقات السودان الخارجية ينبغي أن تبنى على المصالح وأن إسرائيل متقدمة اقتصاديا وتقنيا وتستطيع تقديم فوائد اقتصاديه كثيره للسودان.. وضمن هذه المجموعة يوجد من يتمنى التطبيع لمجرد كرهه العنصري للعرب، لكنه لا يستطيع اعلان موقفه جهرا، فيتخفى تحت ستار الفوائد الاقتصادية، اننا لا يجب أن نشيل وش القباحة في حين ان أصحاب القضية قد تخلوا عنها..
فما هي الفوائد التي سنجنيها من تطبيع علاقاتنا مع الكيان العنصري الصهيوني؟
الكيان الصهيوني، في كل علاقاته تاريخيا، لم يكن من الدول المانحة للمساعدات، لأنه بحكم وضعه الجيوسياسي هو من الكيانات المعتمدة على المنح والمساعدات الأمريكية والتعويضات الألمانية.. نعم يقدم الكيان الصهيوني مساعدات عينيه تتمثل في التدريب الفني والتقني وبشكل أساسي في المجال العسكري والأمني ومجال تقنيات المياه.. فهل نحن في حوجه الى هذه المساعدات؟ وإذا كنا في حاجة ماسه اليها، فهل الكيان الصهيوني هو الجهة الوحيدة في العالم التي تمتلك هذه الأشياء؟ هل نحتاج الى تقنية التصرف في المياه بالري بالتنقيط او استصلاح الأراضي الصحراوية؟ عمليا نحن لا نستخدم حصتنا في اتفاقية مياه النيل، ولدينا أراض زراعية خصبه وواسعه وغير مستغله بسبب وحيد وهو انعدام السياسات الاقتصادية السليمة بسبب تعاقب الأنظمة الدكتاتورية المتوالية وليس بسبب افتقادنا للأراضي الصالحة للزراعة او ندرة مياه الري..
ويبقى السؤال الأهم: حتى وان صدقنا مزاعم الفوائد الاقتصادية والتقنية التي يمكن ان تعود علينا من التطبيع مع الكيان الصهيوني، فأي ثمن سندفعه في المقابل؟
ويبقى السؤال الأهم: حتى وان صدقنا مزاعم الفوائد الاقتصادية والتقنية التي يمكن ان تعود علينا من التطبيع مع الكيان الصهيوني، فأي ثمن سندفعه في المقابل؟
في سردنا السابق للعلاقات الأفريقية الصهيونية، رأينا وبقلم باحثين صهاينة، أن الكيان الصهيوني لم يقم علاقات سوية مع أنظمة ديموقراطية او مع حركات التحرر الوطني الأفريقية، بل كانت علاقاته دائما مع انظمه دكتاتوريه وعنصريه او حركات سياسية ذات طبيعة تفتيتيه للدولة الوطنية في افريقيا.. جربنا ذلك في السودان منذ الإنيانين مرورا بالحركة الشعبية وانفصال جنوب السودان ووصولا لبعض حركات دارفور المسلحة.. وقد برر اللواء جوزف لا قو هذه العلاقات بالقول في مذكراته صفحة236 عن زيارته الأولى للكيان الصهيوني ((قدرت حساباتي استنادا على مبدأ عدو عدوك صديقك)).. ولذلك كانت اول زيارة خارجيه لسلفا كير، للكيان الصهيوني، فماذا قدم هذا الكيان العنصري لدولة جنوب السودان الوليدة غير السلاح والتدريب الفني والعسكري لأمراء الحرب في جنوب السودان..
خلاصة القول: التطبيع مع الكيان الصهيوني، فوق انه يمثل عملا لا أخلاقيا ويقف بالضد من موقف شعوب العالم وافريقيا والوطن العربي، فانه لن يخدم سوى النظام الدكتاتوري الحاكم ويساعده في احكام قبضته الأمنية على البلاد، إضافة الى فتح المجال واسعا امام مخابرات هذا النظام لتغذية النعرات التفتيتيه والانفصالية في بلادنا، إضافة الى استفادته المتوقعة من مياه النيل لحل أزمته المستحكمة في هذا المجال..