
بقلم: زكريا نمر
#ملف_المرأة_والمجتمع
في مجتمعات عاشت طويلًا على أنقاض العادات، كانت الأنثى تُعامل ككائن ناقص، يُربى ليُطيع، ويُوجَّه ليصمت، ويُهَيَّأ ليُمنح لا ليأخذ. كان يُقال لها إن مهمتك أن تربي الأجيال، بينما تُحرَم من أن تربي ذاتها على الفكر والسؤال والمعرفة.
لكن شيئًا ما تغيّر. لقد دخلنا عصورًا جديدة، فيها الأنثى لم تعد مجرد ظلٍّ خلف رجل، أو جدارٍ خلف الأبناء، بل أصبحت روحًا كاملة، صانعة للوعي، ومؤسسة للنهضة من عمق التهميش. والكتابة كانت أحد أعظم أدواتها للانبعاث.
حين تمسك الأنثى القلم، لا تمسكه فقط لتكتب قصة أو تسرد حكاية، بل لتمزق صمتًا طويلًا فُرض عليها. تكتب لتعيد تعريف نفسها، ولتقول للعالم: أنا هنا، لست كائنًا ثانويًا، ولا ضلعًا أعوج، بل عقلًا مفكرًا، ووجدانًا نابضًا، وإرادة تصنع ما تشاء.
المرأة الكاتبة لا تكتب فقط عن الأنثى، بل عن المجتمع كله، لأنها حين تكتب عن القهر، عن التهميش، عن العنف، فإنها تكتب عن الجذور التي تفسد الشجرة كلها.
تكتب عن زواج القاصرات لا بوصفه حدثًا، بل كارثة أخلاقية، وعن العنف ضد المرأة لا بوصفه ظاهرة فردية، بل منظومة ثقافية لا بد من خلخلتها.
إن كل كتاب، كل مقال، كل صفحة تخرج من رحم أنثى مثقفة، هي إعلان تمرد على قرون من الصمت. لقد أدركت الأنثى أن المعرفة لم تعد ترفًا، بل خلاصًا.
لوقت طويل، رُبط وجود الأنثى بتربية الأبناء وكأنها المهمة “الطبيعية” الوحيدة التي خُلقت لها. وعلى أهمية الأمومة، فإن حصر الأنثى في هذا الدور هو أحد أشكال العنف الناعم.
لقد كانت الفكرة أن عقل المرأة لا يُحتاج إليه، وأن قلبها هو الشيء الوحيد الذي يُثمَّن.
لكن الوعي النسوي الحديث، خاصة حين تقوده نساء مثقفات، قلب المعادلة.
بات واضحًا أن تربية الأبناء لا تعني البقاء في البيت فقط، بل أن تُربي جيلًا مفكرًا، ناقدًا، حرًا، وهذا لن يكون إلا إذا كانت الأم نفسها واعية ومثقفة وفاعلة في مجتمعها.
من هنا، بدأت الأنثى تصعد إلى حرم الجامعات، والمراكز البحثية، ودور النشر، والجمعيات المدنية، والمؤسسات الحكومية.
لم تعد تنتظر الإذن، بل تصنع الطريق. لم تعد تقف في الصفوف الخلفية، بل تدير النقاش، وتوجه السياسات، وتكتب الرؤى.
في كثير من المجتمعات، لا تزال الطفلة تُنتزع من مقاعد المدرسة لتُزف إلى رجل يكبرها بعقود.
يحدث ذلك تحت شعارات “الستر” و”العُرف”، لكنه في الحقيقة اغتيال صريح لطفولة لم تعش، وأحلام لم تولد.
الكاتبة المثقفة هنا لا تكتفي بالتنديد، بل تفتح ملفات الوجع، تسرد القصص، تكتب أسماء الطفلات، تواجه القوانين، وتحرج المجتمع أمام مرآته.
إنها لا تكتب فقط لتبكي، بل لتغيّر. وفي كتابتها، تخلق وعيًا جماعيًا يجعل الناس يراجعون مسلماتهم، ويكتشفون أن ما يسمونه “تقليدًا” هو في جوهره ظلم.
العنف ضد النساء ليس فقط ضربة في الجسد أو إهانة في العلن، بل يبدأ غالبًا من لحظة تعليم الطفلة أن الأدب يعني السكوت، وأن الشرف هو جسدها فقط، وأن العقل ليس من اختصاصها.
المرأة المثقفة تُفكك هذا العنف، تُظهر جذوره، وتعيد تعريف مفاهيم المجتمع: الشرف، الحرية، الطاعة، الذكورة، الأمومة، بل حتى الوطن.
إنها تدخل اللغة نفسها لتعيد ترتيب المعاني. ما نعيشه اليوم ليس فقط ارتفاع نسبة المتعلمات أو عدد الكاتبات، بل ولادة عقلية نسوية جديدة.
أنثى لم تعد تطلب أن يُسمح لها، بل تعلن أنها موجودة دون إذن من أحد. عقلية تعتبر الصمت خيانة، والمهادنة هزيمة.
هذه العقلية لا تعادي الرجل، بل تعادي الاستبداد أيًّا كان جنسه. وهي لا تطالب بامتيازات، بل بمساواة حقيقية قائمة على الوعي والاحترام.
في اللحظة التي تكتب فيها الأنثى المثقفة، يتحرك التاريخ.
لم يعد يُكتب فقط من وجهة نظر الغالب، بل من قلب المغلوبات اللواتي نفضن الغبار وكسرن الأقفاص.
حين تكتب الأنثى، تكتب عن الحب والحرية، عن الألم والأمل، عن الكرامة والانكسار، عن أمومة ليست قيدًا، وأنوثة ليست ضعفًا، بل طاقة قادرة على شفاء العالم.
هي لا تسعى لإثبات ذاتها لأنها موجودة فعلًا، بل تسعى لإصلاح عالم اختل حين تم إقصاؤها.
كتابتها ليست مجرد عمل أدبي أو ثقافي، بل عمل وجودي، أخلاقي، تحريري.
وما المجتمع إلا مرآة لأفكاره، فإن كتبت النساء أفكارًا جديدة، كتبن مجتمعًا جديدًا.
Leave a Reply