خليل إسماعيل

بقلم: محمد المرتضى حامد

#ملف_الهدف_الثقافي

صوت زي النور الأخضر يسوقك معاه بلطف ويُسر في الجهات الأربعة تغني بس… “كلِّميهو يسيب عنادو ويسمع أحبابو البنادو…” أغنية (في مسيرك يا الهِبيِّب) أجمل ما فيها أن المحور والثيمة الأساسية والطلب الابتدائي والختامي “المهم تلقيهو طيب”، كلام سهل وأبسط مما تتصور، غاية يُقدم فيها الحبيب حُسن حال المعشوق على اشتياقه الخاص بمثلما ورد في كتاب النعام آدم، الذي لخص المضمون في الغلاف بـ “أريتك تبقى طيب إنت، أنا البي كلو هيِّن”. فمن صفات أهل السِلسِلّه، ناس أبوقطاطي وعثمان خالد وهاشم ميرغني وخليل إسماعيل، السهر وردي وآخرين، أنهم يؤثرون على أنفسهم والخصاصة فيهم مقِيلّة وبايته، عاشوا رهبانًا بين تراتيلهم وخشوعهم، يأتون إلى الحياة في يُسر فيجملونها ويرحلون كنيازك مرت بالسماء في ليل صحراء مهيب.

خليل إسماعيل اللطيف، أجمع الناس على محبته كإنسان سهل ارتقى أولى عتبات الغناء في عروس الرمال وما أدراك ما العروس وما الرمال، دار اللِبيِّض، وادي سيليكون الحسان والمركز السوداني للعسل. أجمل لافتتين رأيتهما في قارات الدنيا كانتا (المركز السوداني للعسل) جوار البرلمان القديم بالخرطوم عندما كان في السودان برلمان وقبل أن يصبح في عصر التتار مجرد كافتيريا مدعومة ومركزًا للشخير وتبادل الرخص التجارية وحكايات مثنى وثلاث والمؤمن حلو، أما اللافتة الثانية فكانت (مَشاتِل الأحباب) بالمهندسين في أم درمان لها الرحمة ولأولاد قلبها حسن العزاء.

مش ملاحظين العلاقة بين الرمال والجمال؟ نساء الرمال يتميزن بحُسن يُفضي بالرائي إلى مساكن السحر والجن وبقاعهم كما وادي عبقر وكهف غات الليبي، وتأكيدًا لجمال أهل الرمال سُميت عاصمة الصحراء المغربية بـ (العيون) بغض النظر عما إذا كان فيهن نعاس أو ينابيع فتنة أو سَرَف. بالطبع لولا حُسن الصحراويات ما وطئ تلك الغفار رجل، فالنساء هناك واحات لحالها، وفي ظني، وليس كل الظن إثم، أن كل من تغنَّى بهن هناك كان في حالة وَلَهٍ حقيقي لا يمكن السكوت عليه كلو كلو، يُفصِح العاشق فيهم حتى لو سُمي (الكاظم) عبدالله، الذي تشبب بحسان زي (اللالايه) ورصيفاتها اليلهلهن اللهاة بأشعار خوالد حتى رفع، رحمه المولى، راية استسلام عالية بيضاء كتب عليها بالبونط العريض “يُمَّه الله من الريد”.

خليل بعث الهِبيِّب كمسنجر في مهمة تشبه دور الهدهد، “شوفي لي أسباب غيابو وجيبي لي عذرو وجوابو”، نهائي ما قال عتابه، زول بسيط وطلبه للهِبيِّب الزاجل أبسط، عايز إفادة عن حال الحبيب لا غير.

المحبة للخليل لم تتأتَ من كونه، مع “مسير الهِبيِّب”، أتانا بأمانٍ عذبة من (أبوقطاطي)، وليس لأنه أدلى بإفادة كالعلقم وحارة نار حين قال: “والشباب أفنيتو أبحث عن وجيعي” فأرسل جُل مجايلينا إلى الفلوات بلا زاد، وليس لأنه قدم عرضًا أكروباتيًا أولمبيًا مع البلابل وبشير عباس في (حيّرت أفكاري)، وليس لأنه حبب الناس في جبل مرة ونفث القطار في صعوده الأسود المجيد عكس الريح باتجاه الأوزون، “(كم كم كم سَرَّيت خليل وفرَّقت خليل من خليل)”، لكن لأنه يغني من غدة صدق لا تُرى، تقع بين القلب والكبد، بصوت يتموضع بين تينور وألتو يهدهدك في المهد صبيًا، يحيِّدك ويعزلك تمامًا إلا من رويحتك دي، فترى في عينيه أنه بحق يعيش كل حرف في أغانيه وجوفه يأكله اللهيب.

“يا حليل شخصو العظيم السافر سكن النعيم…” في ملحمة هاشم صديق وعرض أبو اللمين الجوي أيام يفاعتنا، كنا نتساءل، بعد أن أدلت أم بلينه السنوسي بشهادتها بأن “(كان القرشي شهيدنا الأول)” بصوت يؤكد “أن الخوارق ليست تُعاد”، كنا نتساءل: طيب يا ربي منو الاخترق حاجز الصوت وطلع من نص السرب منشدًا: “وكان في الخطوة بنلقى شهيد بدمو بيرسم فجر العيد”؟ وطبعًا دماء الشهداء حتمًا سترسم فجر العيد طال الزمن أم قصر لا تحول دون ذلك كل ترسانة الناتو أو بوتين. أها، الطلعة دي خليل عملها بحركة تُعرف في مقاتلات السوخوي بـ “Copra Maneuver”، طلعة أفقية سريعة تليها وضعية التوزين بصديره عام، وطوالي شقلبة للخلف (سمرسولت) وخلفها دخان أحمر يجمِّل السماوات الصافية تاركًا بقية السرب بالجانبين يواصل طيرانه الأفقي بخطوط زرق فترتسم في السماء لوحة، كابتسامة العزيزة، تسعد الفضاء ويحتفل الأفق. “(وكان في الخطوة بنلقى شهيد بدمو بيرسم فجر العيد)”، هذه عندما أسمعوها لخليل مسجلة في حفل نقله التلفزيون قبل رحيله المباغت بقليل، جاءه الشامخ محمد الأمين يصافحه، بكى الاثنان ولحقناهم سرًا بالدرب التِحت، فكانت بحق لحظة مختلسة من زمن عجيب تصعب الكتابة عنها لأنها تختزل في كثافة عالية فرحة بقصة ثورة 8 درجات على مقياس هاشم ريختر وجوقة المنشدين مقارنة بآمال عراض ممهورة بدماء الشهداء وعذابات الشرفاء تلاشت بفعل بعض عسكر العالم الفاشل الذين ظنوا، وما فتئوا، أنهم خُلقوا ليحكموا ولم يتعلموا من تجربة 54 عامًا عجافًا أورثتنا مؤونة قرن من الفواجع.

إنا لله وإنا إليه راجعون.

تصغير بعض الكلمات في هذه الأغنية كـ (الهِبيِّب) و (الحِبيِّب) و(قِريِّب) يجعل منها لغة يضوع منها عبق ثياب صلوات الأمهات ويدثرها بجمال فادح عكس المبتغى من التصغير، فالتصغير فيه حنية بأكثر من الكلمة الأصل، فيه عاطفة صقيلة وorganic ومدهشة، زي مناداة حبوباتنا “يا وِليدي” وزي ود بارا الفخم، يا سلام على ود بارا، لمن يقول “رويحة” الهاوية، و”بريدك من زماااان لِسَّه”، طبعًا الريدة عند الرجال كالنهر في جريانه يروي الزرع والضرع في عطاء حاتمي جل العمر حتى يلقى مصيره المحتوم في الدردنيل أو بحر الظلمات وتلك نتيجة منطقية لسؤال (أبوصلاح) التاريخي على لسان بادي: “كيف تبقى عاشق وانت حي؟” أحمد المصطفى قال دستوره نازل في الخرطوم ثلاثة، لكن الساكس المصاحب لأداء خليل يُدستِر كل الكائنات لا سيما مع أنامل تتقن الملامسة والمداعبة حد الإسكار والغيبوبة. أنصتوا له عند السنجك وغيتاشو الإثيوبي وسمير سرور أو فوستو بابيتي، يا تطرب يا تطرب والردة مستحيلة، عزف يصحّي كل جيوش الشجن والخلايا النائمة فيك وفي كل من انتمى لفصيلة البشر. بالطبع هناك استثناءات قليلة لكائنات (تعرفونها جيدًا) تقع خارج الـ Homo Sapian ما في داعي نعكِّر بذكرها مقام الخليل.

يقول حسين البرغوثي: عمق الغناء يأتي، أحيانًا، من عمق الوجع، كما يأتي الضحك الذهبي من كثرة المتاهات… ملحوظة أخيرة: “قلبي من تعذيب بُعادو لاقى أهوالًا تَشيِّب.”

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.