ذكرى

إنصاف الشفيع

#ملف_الهدف_الثقافي

أعدتُ تقليب الكتب أكثر من مرة، باحثةً عن شيء. أي شيء يدلني على سر غيابه المفاجئ، ربما قصاصة ورقية أو إشارة بقلمٍ… لا شيء. ليس من عادته أن يخلف وعدًا قطعه على نفسه، خاصة معي أنا. أعدتُ تفتيش جيوب الشنطة التي وضعتُ فيها الكتب… عقد اشتراك خدمات من المصرية للاتصالات، ورقة معنونة من وزارة الصحة بولاية الخرطوم، بطاقتا تأمين من مستشفى الأمل، منشور دعائي لواحدة من شركات توريد الأجهزة الطبية، ومجموعة ضمادات ماصة معقمة.

عدتُ مرة أخرى إلى الكتب، اثنان منهما كانا له، ربما اشتراهما أو أهداهما له أحدهم… أعدتُ التدقيق في كتاب كنتُ قد أعرته له، بدا من غلافه أنه ربما قرأه كثيرًا، أو هكذا تبادر إلى ذهني. استوقفني الإهداء المكتوب عليه… (إلى كل الذين عانوا… تعرفون أنفسكم). لا بد أنه حدَّث نفسه بأنه من هؤلاء الذين قصدهم ماثيو بيري، وأهدى لهم كتاب مذكراته.

لا أستطيع التسليم بأنه قد مضى إلى حيث هو الآن دون أن يترك لي أي تفسير. لا بد أنه قد ترك إشارة ما في مكان ما، فهو خير من يعرفني. يعرف قلقي وخوفي عليه. أقول له ضاحكةً: “ماك عارف قليبًا لي مجينين؟” يضحك ويجيبني: “لا شيء يدعو لقلقك.”

أذكر من سنوات عديدة أننا تواعدنا للسفر معًا إلى سنار. أخبرني أنه سيأتي مساءً لنذهب مبكرين صبيحة اليوم التالي، لكنه لم يأتِ. ثارت مخاوفي وانتابني قلقٌ طاغٍ، ليس من عادته أن يخلف وعدًا قطعه على نفسه، خاصة معي أنا. لا بد أن مكروهًا قد أصابه. بكيتُ كثيرًا حتى انزعج من هم حولي… كلهم قالوا: لا شيء يدعو للقلق والبكاء، بالتأكيد نسي الموعد بسبب انشغاله، ستجدينه آتيًا غدًا أو بعد غد. ثم، لِمَ العجلة؟ يمكنكما السفر الأسبوع القادم. لُذتُ بصمتي، فأنا وحدي من أعلم أنه ما كان لينسى أمرًا كهذا. في اليوم التالي وأنا أغالب قلقي وانزعاجي، فإذا بقريبتي تعود من مشوار قريب وتبادرني قائلة: “ألم أقل لكِ إنكِ قلقتِ وبكيتِ لا لشيء! قابلني أمير، تعرفينه، قال إنه قابله بالأمس وأوصاه أن يخبركِ بأنه اضطر للسفر إلى كسلَا في مهمة طارئة، وربما يتأخر، فمن الأفضل أن تسافري وسيلحق بكِ فور عودته.” تنفس الجميع حولي الصعداء، ما عداي. لقد جعلت كل من معي يشعرون بالانزعاج والتوتر بسبب مخاوفي، وها هم يرون أن اللغز قد حُل ولا داعي لما أحسه… أنا وحدي من أحسست أن ما قيل لي كذبة واضحة وضوح الشمس، لكنني تظاهرت بالاقتناع. يكفيهم ما أصابهم من قلق ولا داعي لكي أجعلهم يحملون معي عبء حدسي وظنوني.

أتذكر الآن ذهابي مبكرةً إلى مقر عمله، رؤية الوجوه المندهشة لمقدمي، ارتباك زملائه وزميلاته وهم يلقون علي التحية ويتسللون الواحد تلو الآخر من المكتب الذي أجلسني صديقه المقرب بأحد مقاعده. كنتُ متأكدة أن شيئًا خطيرًا قد أصابه… رحتُ أتأمل وجه صديقه الصامت أمامي وأراقب ملامح وجهه القلقة، ثم فاجأته بسؤال مباشر: “ماذا حدث له؟”

أربكته نظراتي الثابتة ولهجتي المصرّة على انتزاع الحقيقة من لسانه، قال بصوت لا يشبهه في محاولة منه لتلطيف وقع كلماته على أذني: “كنتُ معه ليلًا قبل يومين، حين تم اعتقاله بواسطة جهاز الأمن، لكن الأمر لن يدوم، ربما يومين أو أسبوع على أسوأ تقدير.” بدا فاشلاً، يائسًا وهو يستميت لإيهامي ببساطة الأمر، وبأنه لا يعدو أن يكون اختلافًا بسيطًا وسوء فهم وسرعان ما سيطلقون سراحه.

آه… أخذ هذا الكابوس قرابة العام ونصف، لكنه انجلى وأصبح ذكريات تُروى…

أما أن يكون الأمر أبديًا فهو ما لا أظنني أحتمله، وهو بذلك أدرى… لِمَ لمْ يذكر شيئًا عن رحيله في آخر لقاء بيننا، أم تراه ذكر ولم أنتبه؟ رحتُ أثرثر عما سأعدّه له من أطباق يحبها، وعن كيف ستبدو القاهرة بدونه مع اقتراب سفره منها، وعن أين سنلتقي في الإجازات حال استمرار الحرب. ما زلتُ أبحث داخل عقلي المرهق عن تفاصيل في ذلك اللقاء الأخير، ربما أغفلتها ذاكرتي، تزداد حيرتي… ربما لن أكتشف ما كنتُ أبحث عنه بين صفحات الكتب، أو في دهاليز الذاكرة. ربما قصد المضي بلا وداع، فهو لا يحب الدموع ولا المناحات… أو أنه خشي عليَّ كعادته، فأبقى أمر رحيله الأبدي سرًّا يُفجعني به الآخرون.

الزقازيق، 12 يوليو 2025

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.