
محمد الأميـن عبد النبـي
القراءة الفاحصة للمشهد السوداني بعد قرابة العامين ونيف تشير إلى أن المعطيات العسكرية على أرض الواقع في تصاعد وليس انحسار، وإلى سعي حثيث لطرفي الحرب في تشكيل حكومات في بورتسودان ونيالا وترجيح الخيار العسكري والتمسك بشرعية البندقية، وإلى تشرزم القوى المدنية وانحياز بعضها لأي من طرفي الحرب فيما يتمسك البعض الآخر بالطريق الثالث والحياد السياسي ورفض مشروعية الحرب والدعوة إلى إيقافها، ورغم الاتفاق على الأهداف والوجهة السياسية والتقارب والحوارات الثنائية، إلا أنها لم تصل بعد إلى جبهة مدنية عريضة موحدة لوقف الحرب وتحقيق السلام، ومازال الاستقطاب سيد الموقف، عطفًا على تصاعد الكارثة الإنسانية وانهيار الاقتصاد وتفكك النسيج الاجتماعي وتصاعد خطاب الكراهية.
في خضم هذا الوضع المأزوم الملبد بالغيوم وانسداد الأفق، الذي يؤكد على حالة الجمود التام والعجز الكامل في إنتاج مخارج من مأزق الحرب وعبثيتها، اتجهت الأنظار إلى تحركات الولايات المتحدة الأخيرة في الشأن السوداني مع السعودية والإمارات ومصر كفرصة ومبادرة جديدة لكسر الجمود وفتح مسار إنهاء الحرب في السودان.
لعله من نافلة القول أن الجهود الوطنية الداخلية قد تعثرت تمامًا لغياب الإرادة السياسية وتصورات اليوم التالي، وأن الجهود الإقليمية والدولية السابقة هي الأخرى لم تحقق تقدم يذكر؛ لغياب الانسجام والتناغم بين الفاعلين الإقليميين والدوليين حول طبيعة الحرب وكيفية التعامل معها والانقسام بشأن طرفي الحرب، وكان عنوانها الأبرز تعدد المنابر، ولم تصل إلى صيغة تنسيقية موحدة رغم الاجتماعات المشتركة لهذا الغرض، وتجلى الصراع الإقليمي والدولي حول السودان في مؤتمر لندن الأخير إذ تعثر الوصول إلى بيان ختامي متفق عليه.
تعكس الأزمة السودانية تداخلًا عميقًا بين القضايا الداخلية والأبعاد الإقليمية والدولية، حيث أصبحت ساحة تنافس نفوذ بين القوى الدولية وصراع محاور بين القوى الإقليمية. وفي هذا الإطار يمكن قراءة التحرك الأمريكي الأخير، الذي يشير إلى الانتقال من مرحلة إدارة الأزمة، إلى البحث عن حلها وفق استراتيجية جديدة، فقد اعتمدت الولايات المتحدة ذات سياساتها التقليدية في السودان القائمة على الجذرة والعصا بفرض عقوبات على طرفي الحرب، وواصلت إدارة ترمب في ذات التوجه بفرض عقوبات في مايو 2025 على بورتسودان باستخدام أسلحة كيميائية، ورغم أهمية هذه العقوبات إلا أنها غير فاعلة لإحداث اختراق حقيقي في المشهد السوداني، كذلك عمدت واشنطن على دعم شركائها وحلفائها في المنطقة في التعامل مع الملف السوداني دون تدخل مباشر مع الفاعلين السودانيين، عسكريين، أومدنيين، باعتبار أنه لا يمثل أولوية في قائمة الاهتمامات الأمريكية، الذي يصنف ضمن الملف الإفريقي، الذي هو الآخر خارج دائرة اهتمام الخارجية الأمريكية، وبدأت أصوات أمريكية تطالب إدارة ترمب بالنظر إلى السودان في إطار مسألة البحر الأحمر والشرق الأوسط الجديد واتفاقيات أبراهام وملف الإرهاب، مما جعل أكثر الفاعلين والمهتمين بالملف السوداني دول شرق أوسطية مع تراجع واضح لدور الاتحاد الإفريقي والإيقاد والدول الإفريقية بصورة عامة.
ولكن، في الأونة الأخيرة ظهر اهتمام أكبر من واشنطن بالشأن السوداني ولعل ذلك يرجع إلى تداعيات الحرب الإس-رائيلية الإيرانية، وتوجهات ترمب بحثًا عن جائزة نوبل للسلام، وتوسع حرب السودان بصورة تهدد بحرب إقليمية، واشتداد الصراع على البحر الأحمر وتهديد الممرات البحرية في الخليج، والصراع في القرن الإفريقي، وزيادة التوتر في الشرق الأوسط، عطفًا على تصاعد الكارثة الإنسانية وزيادة استهداف المدنيين وتمدد المجاعة، مما جعل الولايات المتحدة تدرك ارتباط السودان بالصراع في المنطقة وتأثير الحرب على مجمل الأوضاع في منطقة مليئة بالاضطرابات على حدود البحر الأحمر والقرن الإفريقي ومنطقة الساحل، وتعد جاذبة للقوى الدولية بسبب موقعها الاستراتيجي، فالسودان بحكم موقعه الاستراتيجي على البحر الأحمر، تمتد سواحله لما يقرب من 670 كيلو مترًا، وتجاوره سبع دول هي مصر وليبيا شمالًا، وفي الجنوب الشرقي إريتريا وإثيوبيا، ودولة جنوب السودان جنوبًا، وفي الغرب والجنوب الغربي، دولتي تشاد وإفريقيا الوسطى. وهو ثالث الدول من حيث المساحة في إفريقيا، ومن العشرين دولة الأكبر مساحة في العالم، ويعد السودان من الدول الغنية بالثروات الزراعية والموارد الطبيعية والنفط والمعادن وبالتأكيد يلعب دورًا حيويًا في إنتاج الطاقة واستقرار المنطقة.
ظهر هذا الاهتمام بشكل واضح في الثالث من يونيو الماضي باجتماع نائب وزير الخارجية الأمريكي كريستوفر لاندو ومسعد بولس مستشار الرئيس الأمريكي للشؤون الإفريقية مع سفراء السعودية والإمارات ومصر، وقد أشار الاجتماع بوضوح إلى أن الحرب في السودان تهدد المصالح المشتركة في المنطقة، وأن عدم إنهاء النزاع بحل عسكري والإشارة إلى سعي الرباعية بالضغط على الطرفين بوقف الأعمال العدائية والتفاوض. وجاءت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو في نهاية ذات الشهر عقب التوقيع على اتفاق السلام بين الكنغو الديمقراطية ورواندا بأن الوجهة القادمة وقف الحرب في السودان، وكانت تصريحات مسعد بولس أكثر وضوحًا حيث أكد على أن واشنطن تعمل على الدفع نحو مسار تفاوضي شامل وأعلن عن استضافة مؤتمر دولي يهدف إلى التوصل لوقف الحرب في السودان. وتوج هذا التوجه بتصريحات الرئيس الأمريكي حيث كشف عن مساعي أمريكية جادة لإنهاء النزاع في السودان عبر حل سياسي.
مما يشير إلى أن هناك تحرك خلف الكواليس لصياغة تسوية سياسية على غرار اتفاق رواندا والكنغو الديمقراطية، وما رشح مؤخرًا حول مقترح إعطاء دارفور حكمًا ذاتيًا وخلافات بين القاهرة وواشنطن حول مشاركة الجيش أو المدنيين في مؤتمر واشنطن، ما هي إلا محاولات للتأثير على توجهات الرباعية في مؤتمرها المرتقب. وهذا لا يخفي جهل إدارة ترمب بتعقيدات الوضع في السودان والتفكير في الحلول المعلبة على غرار تجربة نيفاشا بصيغة دولة بنظامين أو أنظمة متعددة كما يطرح فرانسيس دينق وهذا لا تعدو غير شرعنة لمناهج التجزئة والتقسيم والتفتيت أو وضع ألغام موقوتة مؤذية ستفتح الباب واسعًا لاندلاع حروب عرقية وجهوية وفي الشرق والغرب ولن توقف عجلة التقسيم والتشظي، ولا يخفي كذلك توجه دول المنطقة في الرباعية، في موقفها المعادي للإسلاميين وللقوى المدنية، والتماهي مع القوى العسكرية، مما يرجح البحث عن صفقة بين طرفي الحرب لتقاسم الثروة والسلطة كما حدث في جنوب السودان أو تقنين الوضع الانقسامي الحالي على شاكلة النموذج الليبي، وستتحمل إدارة ترامب النسخة الثانية من تقسيم السودان، وربما يكون ذلك توجه عام في السياسات الأمريكية في السودان، ومازال السودانيون يحملون إدارة بايدن المسؤولية في عدم منع انقلاب 25 أكتوبر وحرب 15 أبريل، وبالتالي يجب التعامل مع التوجهات الأمريكية بحذر شديد.
محددات الموقف الأمريكي لا ترتبط بالمصالح الأمريكية المباشرة في السودان أو منع انتهاكات حقوق الانسان أو توصيل المساعدات الإنسانية أو تشجيع تشكيل حكومة مدنية، وأصبح من المعلوم بالضرورة أن لا مصالح أمريكية حيوية في السودان وتراجع أمريكي كبير عن قيم الليبرالية والديمقراطية وتجميد المساعدات الإنسانية والإذعان إلى سردية أن القوى المدنية مشتتة وغير متفقة، ولكن الحقيقة فإن محددات الموقف الجديد يرتبط باستقرار منطقة البحر الأحمر كمصلحة أمريكية مهمة، عطفًا على أن تأثير الحرب على حلفائها يتزايد بشكل مضطرد، وعليه، فإن واشنطن تسعى إلى الاستقرار في السودان ضمن مشروع الاستقرار الإقليمي والتعاون الاقتصادي وليس تعزيز التحول المدني الديمقراطي والسلام العادل الشامل.
لا جدال حول أن الأولوية وقف الاقتتال ووضع حد لآلة الحرب كمدخل للعملية السياسية، وهذا لا يتاتي إلا بتقييم دقيق للمبادرات السابقة والبناء عليها لا سيما اتفاق جدة، الذي وضع أساس المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين، ووثيقة المنامة، التي وضعت أساس وقف إطلاق النار والترتيبات الأمنية والحل السلمي، ومؤتمر القاهرة، الذي أطلق حوار سياسي خاطب الأزمة السياسية ووضع أسس الحل السياسي عبر مؤتمر مائدة مستديرة، هذه المسارات الثلاثة يمكن البناء عليها وتطويرها في مؤتمر الرباعية المزمع بواشنطن في مشروع ينهي الحرب ويحقق السلام المستدام ويرسي ترتيبات الانتقال المدني. وبالتالي فإن أي توجه على نهج خريطة الطريق، التي قدمتها بورتسودان للأمم المتحدة أو اللجوء إلى الحلول المعلبة لتكريس حالة الانقسام والتفتت أو الاستمرار في إدارة الأزمة بدلًا عن حلها، سيعيد عقارب الساعة للوراء وقد يأزم الوضع أكثر في ظل اضطرابات إقليمية وتحولات متسارعة وإضاعة فرصة إنهاء الحرب والوصول لسلام مستدام.
Leave a Reply