شقيقة الشهيد صالح – جيهان عبد الوهاب لـ”ملف المرأة والمجتمع”:

  • “لا عدالة ما دامت آلة القتل تحصد الأرواح”
  • “الحرب استهدفت الثوار والمناضلين.. والعدالة حتمية لمستقبل أبنائنا”
  • “صالح كان سند العائلة.. وأحمد الله أن والدتي لم تشهد استشهاده”
  • “قال لي: ما في ثورة بلا شهيد.. وما زلنا لم نقتص من القتلة”
  • “أتذكر تفاصيل 9 يناير المؤلمة.. كيف تلقيت خبر إصابته ووصلت إليه والدماء في كل مكان”
  • “رسالة صالح للقوى السياسية: الوحدة هي الطريق لإسقاط النظام ووقف الحرب واستعادة الديمقراطية”
  • “دورنا كأخوات للشهداء: التوحد لدعم الديمقراطية وضمان عدم قتل أبنائنا خارج القانون”

مقدمة:

مع حلول ذكرى الثلاثين من يونيو، تعصر قلوب الأمهات والآباء والأبناء على شهداء كانوا معنا بالأمس، غادروا الدنيا الفانية، ولم ينسوا أن يتركوا لنا عطرًا من سيرة سمحة، وأثرًا من درب مضوا فيه وأناروه بوجوههم المضيئة، وخطوا فيه بدمائهم عهود الثورة، كتبوها على جداريات النضال تذكرنا كلما نسينا، وتدلنا كلما أوشكنا على فقد الأثر، وتعلمنا ألا نهدأ إلا وقد تحرر الوطن وتنادينا أن حي على النضال.

الشهيد صالح عبد الوهاب أحد هؤلاء الذين تركونا ولم نتركهم. تابعوا في هذا الحوار مع الأستاذة جيهان عبد الوهاب، ماذا قالت؟

حوار: د. منال جنبلان

  • في ظل استشهاد الكثيرين اليوم بفعل الحرب وصناع الموت العسكريين وتسيدهم المشهد، هل يمكن أن تتحقق العدالة يومًا ما؟
  • لابد للعدالة أن تتحقق، خاصة بعد استمرار هذا النظام الغاشم في قتل أبناء الشعب السوداني. أنا أعتقد أنهم لابد أن يُحاسَبوا على ما ارتكبوه من جرائم منذ لحظة اندلاع الثورة وحتى ما قبل الثورة، إبان انقلاب نظام الإنقاذ البائد، وما ارتكبوه من جرائم بعد الانقلاب ليتسلطوا على الشعب السوداني. والآن أشعلوا الحرب وديدنهم الاستمرار فيها، واستمرارهم في حصد أرواح الشعب السوداني وقتل المواطنين. أنا أعتقد جازمة أن هذه الحرب كانت على المواطن وعلى الثورة وعلى الثوار.. يقتلون المواطنين بحجج واهية وهي التعاون مع الجيش أو التعاون مع قوات الدعم السريع، غير أنهم فعليًا في قتلهم هذا يستهدفون أي مناضل أو أي من كان له علاقة بالثورة أو بالتغيير. لكل هذه الأسباب أنا أؤمن بضرورة محاسبتهم ومعاقبتهم حتى لا يستمر القتل وحتى لا يتكرر السيناريو الذي صنعوه بأنفسهم معتقدين أنهم إذا قتلوا كل مرة فإن الشعب يمكن أن يتنازل عن حقوقه.
  • هل لكِ أن تحدثينا عن شقيقكِ الشهيد صالح؟ كيف كانت شخصيته، أحلامه، وماذا كان يعني لكِ كأخت؟
  • الشهيد صالح كان شابًا ذا شخصية قوية، معتمدًا على نفسه، معتزًا بها، لم يتأخر يومًا عن مساعدة أسرته، ويمد يد العون لكل أصدقائه. كانت له ميزة وهي حب الأطفال واهتمامه بهم وبتفاصيلهم الدقيقة الصغيرة. كنت أرى كيف يعامل بناتي الصغار وكيف يحنو عليهم ويساعدهم ويضحك معهم وينظر لهم نظرة الأب، وأنا أنظر إليه نظرة الأم، فهو ليس أخي الصغير فقط، بل أنا من قمت بتربيته وإخوتي الصغار مهند وعلاء بعد وفاة والدتي، كبروا معي ومع والدي وزوجي فكانوا أبنائي وليس إخوتي.. أحيانًا عندما أحس بألم فراقه أحمد الله أن والدتي توفيت قبل استشهاده، لشدة تعلقها به لم تكن لتتحمل خبر استشهاده.
  • ما هي أبرز القيم أو المبادئ التي كان صالح يؤمن بها ويسعى لتحقيقها في حياته ونضاله؟
  • خرج صالح في مواكب ديسمبر وهو مؤمن بشعارات الثورة في الحرية والسلام والعدالة والديمقراطية. يوم استشهاده في 9 يناير كان يوصي الثوار بأن ينتبهوا لأنفسهم ولا يعرضوا حياتهم للخطر. كنت أقلق عليه قلق الأم لما كنت أشاهده من فظائع القمع. أتدري ما كان رده على قلقي؟ كان يقول: “إنتِ ما تقلقي، وما في ثورة بلا شهيد، واتوقعي ممكن يكون في شهداء وممكن نكون نحنا، بس حطي في بالك هل ممكن تكون في ثورة بدون يكون في شهداء؟” هذه آخر كلماته لي، وما يؤلمني أننا حتى الآن لم نستطع أن نحقق لهم العدالة ونقتص من القتلة الذين قتلوا أبناء الشعب السوداني. أتمنى أن تتحقق العدالة وتتم محاسبة كل الذين أجرموا بحقنا حتى نضمن مستقبل أبنائنا الأحياء وحتى لا يمارس عليهم القمع الذي مورس في ثورة ديسمبر ويُمارس الآن في هذه الحرب الكارثية.
  • ما هي اللحظات أو الذكريات التي تحتفظين بها لصالح قبل استشهاده؟
  • في صبيحة 9 يناير أوصاني الشهيد صالح بأن أوقظه باكرًا لأنه وإخوتي الصغار يخططون للمشاركة في مواكب أمدرمان. وقد كان، استيقظ بينما كنت أعد له وجبة الإفطار لكنه رفض وطلب بعض القهوة، وتشاركناها سويًا ونحن نضحك ونتسامر، وبين كل لحظة والأخرى أوصيه: “خلوا بالكم من بعض، ما تمشوا بعيدين من بعض، خليكم قريبين يا صالح، وخلي بالك من إخوانك الصغار”. كنت أوصيه على إخوته الصغار لأنه الكبير ولم أعلم أنني لن أرى الكبير مرة أخرى. رد علي ممازحًا: “يا جيهان ما عادي لازم تحصل حاجة، وما ممكن الناس تطلع ثورة وما يحصل زول ينضرب أو يموت أو كده يعني”. كنت أرد عليه: “لا ما تقول كده وإن شاء الله ربنا حيرجعكم سالمين بس إنت خلي بالك من إخوانك الصغار”. أتذكر يومها أنني لاحظت أنه يرتدي “تي شيرت” ذا لون فاقع فطلبت منه ألا يرتديه لأنه قد يكون هدفًا سهلًا ولكنه أصر على ارتدائه، وخرج إلى الموكب ولم يعد.
  • كيف تلقيتم خبر استشهاد صالح؟ وكيف أثر هذا الفقدان على حياتكِ وحياة أسرتكِ؟
  • 9 يناير كان يومًا عصيبًا، عندما قرر صالح وإخوتي الخروج في موكب أمدرمان طلبت منه أن أرافقهم، ولكنه رفض وأجابني بأن لدي مسؤولية أبي وبناتي: “البنات ديل أبوهم معتقل فما بينفع تطلعي الموكب.. أنا بتصل عليك أول بأول عشان أطمنك”. في ذلك اليوم وأنا أشاهد أخبار المواكب على التلفاز لمحت صورته، لمحت صالح وهو متلفحًا شالًا في رأسه. اتصلت عليه: “يا صالح إنت لافف الشال في رأسك؟ ده إنت؟” رد: نعم، أخبرته أن المنطقة التي يتواجدون فيها حدثت فيها إصابات كثيرة وإطلاق رصاص.. أخبرته أن يخرج هو وإخوته من تلك المنطقة، رد مجيبًا أنه يبحث عن أخي علاء وسوف يخرج. في الدقائق التالية تلقيت اتصالًا يخبرني أن صالح قد أصيب برصاصة في كتفه. هلعت وهرعت إلى مستشفى الأربعين في أمدرمان، كانت الطرقات مغلقة بسبب المواكب، والوصول إلى المستشفى صعب جدًا. رأيت أن أتصل بأقاربي في أمدرمان حتى يطمئنوني على صالح لحين وصولي إليه. بعد زمن طويل وصلت إلى المستشفى، كان المنظر مرعبًا، الدماء في كل مكان. رأيت بعضهم يحمل صالح ويصعدون به إلى الطابق العلوي وأنا أظن أنه مصاب في كتفه، فإذا بي أجد صالح وهو فاقد الوعي بسبب فقده الكثير من الدماء. كان منظرًا مؤلمًا لا أستطيع وصفه، رأيته ممددًا وقد فشلت كل محاولات إنعاشه ثم تم إعلان استشهاده.. الحمد لله.
  • ما هي الرسالة التي تعتقدين أن صالح كان ليوجهها للقوى السياسية والمدنية اليوم؟ وما هي رؤيتك الشخصية للخطوات التي يجب أن تُتخذ لتحقيق هذا الهدف المنشود؟
  • من الواضح أن هذه الحرب اللعينة هي حرب على الثورة والثوار، والغرض منها إلهاء الشعب السوداني عن المطالبة بالعدالة ونسيان من تم قتلهم. تحقيق العدالة في التحدي الأكبر بالنسبة للقوى السياسية هو التوحد في جبهة مدنية واحدة توحد أهدافهم لوقف هذه الحرب الكارثية واستعادة المسار الديمقراطي، وبالتالي تحقيق العدالة لنا نحن أبناء الشعب السوداني وتتم محاسبة القتلة الذين أجرموا في حق الشعب. أعتقد لو كان صالح ما يزال بيننا لوجه رسالة للقوى أنه لولا اتحادنا لما أسقطنا نظام 30 يونيو المقبور. الآن الوحدة هي الأكثر أهمية لاستعادة المسار الديمقراطي ووقف الحرب. أتمنى أن تتوحد القوى السياسية في جبهة مدنية واحدة لوقف الحرب.
  • ما هو الدور الذي ترين أنكِ تستطيعين تقديمه لدعم هذه الجهود، انطلاقًا من تجربتكِ كأخت لشهيد؟
  • عندما توحدت القوى السياسية في كلمة واحدة والتف الشعب السوداني حولها نجحت في إسقاط نظام 30 يونيو الغاشم. الآن المطلوب من نفس هذه القوى المدنية والسياسية أن تتحد وتتفق في الهدف لإيقاف الحرب واستعادة مسار الديمقراطية. وعندما تستعاد الديمقراطية تتحقق العدالة ويُجبَر خاطر الأمهات اللاتي فقدن أبناءهن، وعندما تستعاد الديمقراطية نضمن بأنه لا توجد قوة تقتل أبناءنا خارج إطار القانون وبدون قضاء.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.