
أ. طارق عبد اللطيف ابوعكرمة
في لحظة تاريخية سوداء، حيث يغيب فيها اليقين وتتفكك البنى الحاكمة وتتراخى روابط المجتمع، ينهض *تصريح قيادة قطر السودان لحزب البعث العربي الاشتراكي في (11/7/2025)* لا ليضيف صوتًا إلى الضجيج، بل ليعيد إلى الفضاء السياسي صوت المعنى وسط الفوضى. هذا التصريح الصادر عن القيادة، ليس بيانًا تقنيًا ولا وثيقة إدارية، بل هو إعلان هوية وموقف في قلب عاصفة تاريخية، حيث تغدو الكلمة ذاتها عملاً مقاومًا. إنه بيان يشتبك لا فقط مع تفاصيل اللحظة، بل مع تمفصلاتها الكبرى: الهوية، الدولة، المجتمع، والاستعمار الجديد.
يبدأ التصريح بإشادة، لكنها ليست إشادة شكلية، بل تموضع أخلاقي وفكري إلى جانب الشعب السوداني – صموده، ورفضه للحرب، ومقاومته لانهيار القيم والكيان الوطني، بل وتقديرًا خاصًا للبعثيين الذين لا يشاركون فقط في المعركة ضد الحرب، بل ضد العدم، وضد تفكك الذات السودانية. والإشادة تمتد إلى منابر الحزب الفكرية والإعلامية، وخصوصًا صحيفة (الهدف)، لا بوصفها (لسانً حالًا)، بل بوصفها منبرًا شعبيًا ومنصة لإعادة إنتاج الوعي القومي والوطني في لحظة التشظي والانحدار.
ومن هنا، يُعاد بناء الثقة في الإرادة الشعبية بوصفها القوة التاريخية القادرة على إجهاض مشاريع التقسيم والتفريط في السيادة الوطنية. ليست الثقة مجرد تفاؤل ذاتي، بل هي فعل إيمان استراتيجي بأن التحولات العميقة في بنية الشعب، رغم الجراح، قد تجعل من الوعي الجديد سلاحًا أقوى من السلاح، ومن الرفض الشعبي للحرب أداة للنجاة الجماعية.
*قيادة القطر:* لا تنكر تعقيدات اللحظة، بل تحذر بوضوح من مآلات استمرار الحرب، وتحديدًا من تصعيد نوعي في أدواتها ووسائلها، بدخول الطيران المُسيَّر وأسلحة جديدة. فهذا التطور لا يفاقم فقط آثار الحرب على الأرض، بل يسهم في خلق مشهد يسمح للقوى الدولية بفرض (حلول) مؤقتة – ظاهرها إنهاء الصراع، وباطنها فرض تسويات تُعيد تشكيل السودان على أسس تخدم خارطة المصالح الدولية، لا مصالح الشعب. في هذا السياق، يصبح استمرار الحرب أداة لإعادة توزيع النفوذ الجغرافي والسياسي بين الأطراف المتصارعة دوليًا، تحت يافطة السودان (المنسي)، لكنه المرصود في دوائر الصراع على إفريقيا، والبحر الأحمر، وفلسطين.
غير أن الأخطر من الحرب كصراع عسكري، هو الحرب كتفكيك للنسيج الاجتماعي عبر التجييش القبلي، والاحتراب الأهلي، والتحريض على خطوط التماس التاريخية بين مكونات السودان الجغرافية والثقافية. لقد كشفت القيادة، بعمق، كيف يتحوّل التجنيد القبلي إلى أداة لتفخيخ المجتمع، وتفجير التاريخ المشترك بين أبنائه. وما يُعدّ في ظاهر الأمر تعبئة عسكرية، هو في الحقيقة تمهيد لنقل الحرب من ساحة المعركة إلى بنية المجتمع، وتحويل القبائل إلى جيوش مصغرة، وبطون اجتماعية إلى كيانات حربية، مما يُهدد بإعادة إنتاج ما هو أعمق من الحرب: إنتاج (اللانسيج) الاجتماعي، وتحويل السودان من وطن إلى فسيفساء من الجماعات المتحاربة.
*قيادة الحزب:* تفضح ازدواجية الطرفين: فالدعم السريع، بحكم بنيته، يشتغل على التجييش القبلي، لكن الجيش – بممارسته ذاتها – يعيد إنتاج ما ينفيه في خطابه. وبين التناقض بين الشعار والفعل، يتبدّى أن كليهما شريكان في عملية مدروسة لتقسيم السودان، تمامًا كما حدث في اتفاق نيفاشا سابقًا. وهنا تظهر العلاقة مع العدو الصهيوني لا كتحليل خارجي، بل كجزء من المفاعيل الداخلية للحرب، حين تكون (إسرائيل) في خلفية الفاعلين لا في نهايات التحليل.
أما المعركة ضد الحريات، فتُقرأ بوصفها معركة ضد الوعي، وضد التنظيم المجتمعي، وضد الحق في الفعل الشعبي خارج النسق العسكري. حيث تُستهدف المبادرات المجتمعية، من لجان الطوارئ إلى التكايا والمطابخ، لا لأنها تشكّل خطرًا أمنيًا، بل لأنها تشكّل نواة لبديل اجتماعي–أخلاقي للمجتمع في لحظة انكشاف الدولة. ولهذا، فإن إغلاق التكايا ليس فقط حرمانًا من الغذاء، بل محاولة خنق لبنية التضامن الشعبي، وتحويل الناس من مواطنين إلى رعايا، ومن فاعلين إلى ضحايا.
وفي هذا السياق، يأتي استهداف مراكز الإيواء والنازحين والكنابي بوصفه تطهيرًا ديمغرافيًا مقنّعًا. الحرب هنا تدخل مرحلة (إعادة التشكيل الجغرافي–السكاني)، وتُستخدم أدواتها – من القصف إلى التجويع – لتغيير خريطة المدن، وتهجير من لا يخضعون، ومحو مظاهر الحياة السابقة لصالح تركيبات مشوهة تخدم مشروع الهيمنة الجديد. وتغدو هذه الانتهاكات جزءًا من مخطط أشمل لتحويل الحرب إلى أداة لخلق (سودان جديد) مشوه، ليس له علاقة بالوطن التاريخي.
حتى الحركة النقابية، التي كانت تقليديًا صمام أمان اجتماعي، تُستهدف بإجراءات سلطوية لا شرعية، تُصادر التنظيم، وتعيد تشكيل النقابات بوصفها أدوات في يد الطغمة الانقلابية، بدل أن تكون ممثلة للطبقة العاملة. ويكشف التصريح عن كيف تحولت أجهزة الدولة، من النائب العام إلى مسجل التنظيمات، إلى أدوات لإعادة تمكين الطفيليين والانتهازيين، وتخليق (نقابات بلا عمّال) لخدمة تحالف الحرب والفساد.
وفي ظل هذا كله، يأتي التوصيف العميق للحصار والتجويع، لا كنتاج عرضي للحرب، بل كأداة استراتيجية من أطرافها. تتحول المدن إلى رهائن، ويُستخدم المدنيون كدروع بشرية، ليس فقط في الجبهات، بل في الأسواق والمستشفيات وأماكن النزوح. والغذاء والدواء يصبحان ورقتي ضغط وتفاوض. الفاشر وكادقلي والدلنج ليست فقط ساحات اشتباك، بل مختبرات لإنتاج (سودان مدمّر)، خاضع، منهك، وجاهز للانقسام.
وضمن هذا الانحدار، يأتي تعيين رئيس وزراء من أحد طرفي الحرب بمثابة عبثية وقحة، ليس لأنهما بلا مشروعية فقط، بل لأنه يقفز فوق أولوية وقف الحرب، ويحاول إعادة إنتاج الدولة كقشرة فوق الانهيار. الحكومة هنا ليست إدارة، بل إضفاء شرعية على واقع التقسيم، وتحويل السودان إلى كيانين أو أكثر، كل واحد منهما يحمل سلطة شكلية لا تملك من السيادة شيئًا. ولهذا، يصف التصريح هذه الإجراءات بأنها (عطية من لا يملك)، فهي ليست تسوية، بل خطوة نحو الهاوية.
أما الاقتصاد، فهو ليس فقط ضحية، بل أيضًا أداة. إذ تفكك العملة الوطنية، وتجويع الشعب، وتحويل الكهرباء والمياه إلى أدوات جباية، كلها مؤشرات على كيف أصبح الاقتصاد نفسه جزءًا من أدوات القهر والإخضاع. والفشل الزراعي، الذي يُشير إليه التصريح بالأرقام، هو إعلان مبكر لمجاعة وشيكة، ليست ناتجة عن الطبيعة، بل عن الحرب باعتبارها سياسة.
وسط هذا الخراب الشامل، لا تكتفي القيادة بالملاحظة، بل تعود إلى الثابت الوحيد: التنظيم. الحزب لا يرى نفسه مراقبًا من خارج المشهد، بل كقوة سياسية وأخلاقية تسعى إلى تنظيم الفوضى، لا عبر فرض السلطة، بل عبر استعادة الحياة. ويغدو التنظيم – بفروعه، واشتراكاته، وفعاليته – بديلاً عن الدولة، لا لأنها اختفت فقط، بل لأنها تواطأت مع الفناء. البعث لا يُقدم نفسه كبديل سلطوي، بل كمعنى اجتماعي–سياسي يستعيد أخلاق المقاومة في زمن التفكك.
ويأتي أخيرًا التأكيد على الثقة في الشعب، لا بوصفه جمهورًا، بل بوصفه الفاعل التاريخي. الشعب هنا ليس ضحية للحرب، بل صانع لما بعدها، حين ينهض عبر الجبهة الشعبية الديمقراطية، ويتوحد على أولوية وقف الحرب، ويرتبط بالمقاومة العربية الكبرى، من فلسطين إلى العراق، ومن البحر الأحمر إلى المحيط الإفريقي. فالسودان، كما يشير التصريح، ليس معزولًا، بل جزء من خرائط التحرر، إن هو اختار أن ينتصر لذاته.
وهكذا، لا يُقرأ التصريح كبيان إعلامي فقط، بل كإعلان نهوض معنوي وسياسي وسط ركام الانهيار. هو بيان يقاوم منطق الفناء، لا بالسلاح، بل بالكلمة، والتنظيم، والوعي، والثقة بأن الشعوب، مهما ضُربت، لا تموت. وفي قلب كل ظلام، هناك حزب، وهناك شعب، وهناك وطن لا يزال ممكنًا.
Leave a Reply