
بقلم: علي الترياق
#ملف_ الهدف_ الثقافي
ما هي الفكرة؟ الفكرة هي الأم التي تولد من رحمها الأحداث والوقائع، الفن والإبداع، النهوض والسقوط، البناء والهدم، الخراب والعمارة، الحرب والسلام.
إن الفكرة ليست مجرد هاجس أو لحظة عابرة تحوم في العقل. إن الأفكار ليست بسيطة كما نتعامل معها ونستصغرها، ولا نُقدّر قيمتها.
الفكرة هي لحظة، ولكن قد ينتج عنها معجزة خارقة أو قرار يحدد مصير الملايين من الناس: إما أن تشتعل حربًا أو تُحقن دماء. قد ينتج عن تلك اللحظة تطور وبناء حضارة، وقد ينتج عنها خراب ودمار يعيد الحاضر إلى أغوار الماضي مئات السنين.
لا تستهِن بالأفكار، إنها وقود العالم نحو الارتقاء أو الانحطاط، نحو العلو والرفعة أو السقوط والانحدار إلى أسفل الدرك.
تخيّل أهرامات مصر التي حيّرت العالم، هذه الأعجوبة الهندسية التي حار الإنسان في اكتشاف أسرارها. بكل هذا التطور والتقدم الحضاري والتقني والهندسي، يركع التطور عاجزًا أمام معجزة بنتها أيادٍ بشرية منذ آلاف السنين. أمرٌ مثيرٌ للحيرة والدهشة، نعم، ولكن الأكثر دهشة أن هذه الأهرامات كانت يومًا ما فكرة تدور في عقل أحدهم، تتأرجح، تعوم كأنها طائر أعمى يحلق في غرفةٍ مقفلة، يصطدم بالجدران محاولًا الخروج إلى النور.
الأفكار العظيمة تؤرق صاحبها، لا يدري: هل يعرضها لمن حوله أم لا؟ هل يعقل أن يُحدث الناس عما يدور داخله من أفكار؟ كيف سيستقبلها من حوله الذين يعيشون في صحراء نائية مترامية الأطراف؟ سيقولون: هذا مجنون، بل أجنّ من الجنون بكثير. كمن يحاول الآن أن يضع على الناس فكرة أن يبنوا منتزهًا على سطح المريخ! فكرة من ضَرب الجنون، حتى الخيال يرفضها ولا يتقبلها، بل لا تصلح حتى أن تكون سيناريو لفيلم خيال علمي.
لكن حين خرجت تلك الفكرة الحبيسة في قبو الأفكار وسجنها المغلق، أصبحت معجزة خارقة لقوانين الطبيعة والهندسة والفيزياء، لا تستطيع تفسيرها. أهرام مصر تنتصب شامخة في قلب الصحراء، تخوض معركة مع الرياح التي تصدر صفيرها حين تخترق الممرات الملتوية. إنها السر العظيم والمعجزة التي تخوض حربًا مع الحاضر والمستقبل. كانت أهرام مصر صندوق أسرار العالم في صحراء الجيزة، والمطمور في أعماق الرمال. لا يزال مجهولًا وقابلًا لاكتشاف المزيد من معجزات الهندسة الفرعونية.
إنها مجرد فكرة لا قيمة لها ولا وزن ولا رائحة ولا حجم. إنها عدمٌ مطمور في دهاليز الفكر، غائرة في دربٍ من الضياع اللامتناهي. لكن “اللا شيء” أصبح أعظم شيء بمجرد تحرير الفكرة من تلك الأغوار والسلاسل العدمية، حتى أصبحت شيئًا يقف شامخًا أمام عوامل الزمن، ويخوض حربًا ضد الحضارة التي لم تستطع الكشف عن أسرارها.
وكل شيء كان مجرد فكرة: حدائق بابل كانت فكرة، برج خليفة كان فكرة، الطائرة كانت فكرة،
محطات الفضاء كانت فكرة، حاملات الطائرات كانت فكرة، السلاح كان فكرة، القنبلة كانت فكرة.
يجب أن نطلق العنان لأفكارنا ولا ندعها حبيسة في جماجم تشبه الصخر الجامد. لا فرق بين الصخرة والعقل الذي لا يُفكر. يجب أن نعطي لأفكارنا مساحة، ونبحث في كل فكرة.
الفكرة مثل الإنسان، تمر بمراحل: تولد، مثل الإنسان حين يبقى في الرحم، ثم يخرج إلى النور. كذلك الأفكار، تمكث في رحم العقل حتى تخرج فكرة نافعة غير مشوهة.
لكن هناك من يتعامل مع الأفكار كالحشرات الضارة. بمجرد أن تتكون فكرة في رأسه، يُسارع إلى قتلها، كمن يقتل اليرقة في الشرنقة قبل أن تصبح فراشة، لأنه يراها قبل نضوجها.
الجاهل يقتل اليرقة لأنه لا يعلم أنها ستصبح فراشة تحلق بأجنحتها في الفضاء الرحب. كذلك الجهلة يتعاملون مع الأفكار بقتلها، لأنهم يرونها قبل نضوجها، يقتلون الأفكار قبل أن تصبح حقائق ملموسة. وهذه هي المعضلة التي لن ننهض ونحن على هذا المستوى من الضحالة الفكرية.
– كاتب من اليمن
Leave a Reply