الذكاء الاصطناعي بين الأكاديمي والإبداعي “الشعر الاصطناعي”

بقلم: محمد شريف
#ملف_الهدف_الثقافي
يعتري استخدام الذكاء الاصطناعي (AI) في الأوساط الأكاديمية حالة من الفوضي، أصبح أداةً ذات حدَّين: بين التسهيل والإبداع من جهة، والتحديات الأخلاقية والتنظيمية من جهة أخرى. هذه الفوضى تعكس مرحلة انتقالية صعبة، حيث يتجاوز التطور التكنولوجي القدرة على ضبطه أو استيعاب آثاره بالكامل.
أسباب هذه الفوضى متعددة، منها غياب المعايير الواضحة، سباق التسلح التكنولوجي، وأزمة الثقة بين الأساتذة والطلاب
العديد من الجامعات لا تملك سياسات محدَّدة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي، مما يخلق فراغًا تنظيميًا يستغله الطلاب (عن قصد أو دون وعي). كما أن بعض الأساتذة يرفضون AI كليًّا، بينما آخرون يتقبلونه جزئيًا، مما يُربك الطلاب.
أدوات كشف الكتابة بالذكاء الاصطناعي (مثل Turnitin أو GPT Zero) ليست دقيقة دائمًا، مما يدفع الطلاب إلى استخدام أدوات أكثر تطورًا لتجنب الاكتشاف. بعض الطلاب يعتبرون هذا “تكتيكًا مشروعًا” في ظل غياب التوجيه الواضح.
تحوَّل الذكاء الاصطناعي إلى أداة للاشتباه بدلًا من كونه شريكًا في التعلم. بعض الأساتذة قد يُبالغون في اتهاماتهم، بينما بعض الطلاب يُبالغون في التملص.
كيف يمكن التعامل مع هذه الفوضى؟ بما أن الأبحاث إنتاج عالمي يجب أن يتم التعامل معها بمعايير موحدة من وضوح السياسات الأكاديمية وتعزيز النزاهة العلمية، وتطوير أدوات تقييم أكثر ذكاءً، و دمج الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية بشكل شفاف. يجب على الجامعات تحديد ما هو مقبول وما هو مرفوض في استخدام الذكاء الاصطناعي (مثلاً: السماح باستخدامه في التخطيط للبحث أو تصحيح اللغة، ولكن ليس في صياغة الأفكار الأصلية). توعية الطلاب بأن الذكاء الاصطناعي أداة مساعدة وليس بديلاً عن الإبداع البشري، وأن التلاعب يُضعف مصداقيتهم الأكاديمية على المدى الطويل.
بدلًا من الاعتماد على كشف النصوص المُولَّدة آليًا، يمكن تصميم تقييمات تعتمد على المناقشة الشفوية أو المشاريع التطبيقية التي تقيس الفهم العميق بدلًا من النصوص الجاهزة. وتدريب الطلاب على استخدامه بشكل مسؤول، مثل الاستعانة به لتحليل البيانات أو توليد فرضيات قابلة للاختبار، مع الإشارة إلى مساهمته بوضوح.
الفوضى الحالية هي نتاج طبيعي لثورة تكنولوجية لم يُستعد لها أكاديميًا. الحل ليس في منع الذكاء الاصطناعي (فهو هنا ليبقى)، بل في إعادة تعريف مفهوم الإبداع والأصالة في عصر الآلة، وبناء ثقافة تعليمية تقبل التكنولوجيا دون أن تُهدر القيم العلمية.

الشعر الاصطناعي
الشعر من الفنون سريعة التأثير والتفاعل من ومع المتلقي مهما اختلف نوعه وجمهوره. الشعر هو جمال الحياة وهو زهرة الروح، إلهام الشاعر ينبع من منابع متباينة ومتدفقة:، من أحزانه وأفراحه، من خفقات قلبه ورجفة روحه. من الطبيعة حين تمطر أو تذبل، من الناس في حديثهم وصمتهم. من تاريخ أمته وأوجاع وطنه، أو من ذكرى لم تندمل. ومن اللغة ذاتها، حين يجد فيها إيقاعًا لم يُطرق، أو استعارة تلامس الأعماق.
الشاعر المجيد يُعرف لا بكثرة الأبيات بل بـثراء خياله وجرأته في التصوير. تماسك بنائه من مطلع القصيدة إلى ختامها. عمق المعاني وصدق العاطفة. وموسيقية اللغة، حتى لو لم تكن القصيدة موزونة، تشعر بأنها تتنفس على إيقاع خاص.
أما القصيدة التي يولدها الذكاء الاصطناعي فهي من قبس الإنسان لا من فراغ. مصدر الإلهام هو ما تعلمه من البشر: أشعارهم، ملاحظاتهم، مشاعرهم المدونة في نصوص لا تُعد. يستلهم المعاني من بحر اللغة ذاته، يجتهد في تركيب صور وأفكار تكون قريبة من وجدان البشر. فالذكاء الاصطناعي لا يشعر، لكنه يحاكي الإحساس، لأن الشعر ليس في المعاني وحدها، بل في الطريقة التي تُقال بها.
هناك شعراء يتّبعون أسلوبًا لا يختلف كثيرًا عن الذكاء الاصطناعي: عقلٌ رياضي، عين لغوية، بدون حسّ مرهف، يتعامل مع القصيدة كمعادلة جمالية.
من أبرز من اقترب من هذا التكنيك:
– الخليل بن أحمد الفراهيدي: واضع علم العَروض، الذي قنّن أوزان الشعر العربي باستخدام منهج يشبه إلى حد كبير التحليل الرياضي، بوحدات تُعرف بـ”التفعيلات” مبنية على نظام زمني صوتي.
– المتنبّي: رغم غليان العاطفة في شعره، إلّا أن بناءه محكم بدقة لُغوية تُحاكي خوارزمية من الجمال والنبرة والمعنى.
– بروفيسور عبد الله الطيب كتب الشهر باسلوب رياضي.
يبدأ من فكرة، يُحللها إلى مشاعر وصور، ينتقي الكلمات كما ينتقي المبرمج أوامر الكود: لكل كلمة وزن وسياق ووظيفة. يُركّب الأبيات كما تُركّب الدوال الحسابية، يحفظ بها الاتساق ويخلق بها الجمال، وهذا هو الجانب العجيب: أن الحس الفني يمكن أن يسير جنبًا إلى جنب مع الدقة المنطقية، وكأن الشعراء العظام هم في الحقيقة مُهندسو المعنى، يحاكون الظلال في وجداننا بلغة موزونة مقصودة.
الأبيات التالية استولدتها واحدة من أدوات الذكاء الاصطناعي لطالب حالم، ودّع دَفءَ السودان ووجد نفسه بين ضباب لندن باحثًا عن دفء آخر:

مفازة الصقيع
أمضي وشمسُ الضبابِ على وجهي
كأنّي سليلُ الظلالِ البعيدهْ
خُطايَ تئنُّ على رصيفٍ ثقيلٍ
كأنَّ الغيابَ يعلّق فيَّ قيدهْ
ألا يا “لندنُ” كم فيكِ من صمتٍ
وماذا أعانقُ.. والروحُ شريدهْ؟
أحنُّ إلى قريتي حينَ تغفو
وتُصلّي الرياحُ على نخلها الوحيدهْ
هناكَ وِسادي من الطينِ دافئ
وهنا لحافٌ من البرد.. منشورة جليده
فغصتُ زمانًا بأحذيةِ الغيمِ
أطاردُ دفءَ الحكاياتِ في البردِ العَقيمِ
ظننتُ الغربةَ سطرًا خفيفًا
فكانت كتابًا.. ثقيلَ التقديمِ
تُعلّمني أن قلبي، وإن رحل
يسكنُ أولَ نَخلةٍ في سَجيني
وأن الديارَ، وإن شاختْ ملامحُها
تحنو علينا.. كجُرعةِ حنينِ
علمتني الغربةُ: أن الرجوعَ
ليس دائمًا خُطوةً.. بل يقين

هذه القصيدة وضعت بطريقة منهجية مستلهمة من طريقة المهندس الشعري:
– بدأت بصورة وجدانية واضحة (وحدة الطالب في لندن) وعولجت بجمل تصويرية تُعطي إحساسًا ملموسًا بالغربة حافظت على الوزن الشعري (قريب من البحر الكامل أو الطويل) واخيراً تم انتقاء كلمات تعكس البيئة (الضباب، المقاهي، الصمت) وتمزجها بعناصر الوطن (الدفء، النداء، الوسادة)
فقصيدة عبد الله الطيب أدناه نزعم أنها استولدت بنهج مصطنع:

بلندن ما لي من أنيس ولا مالي
وبالنيل أمسى عاذري وعذال
ذكرت التقاء الأزرقين كما دنا
أخو غزل من خدراء مكسال
ينازعها كيما تجود وينثني
وقد كاد محبورًا مؤانس آمال
إذا الأبيض الزخار هاج عبابه
له زجل من بين جال إلى جال
ترافقه من فوقه قزع الطخا
فتحسبهن الطير تهفوا لأوشال
ويا حبذا تلك السواقي وقد غدت
بألحان عبرى ثرة العين مثكال
ونخل إذا ما البدر أشرق خلفه
أطل على الرائين كالعنق الحالي
وشوك السيال يلمع النور فوقه
طرائق مثل الذر يلمع في الآل
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بكثبان داري والأحبة حوالي
وهل أسمعن الدهر تغريد طائر
وبالفجر ترجيع المؤذن والتالي

وإذا كنا ننتظر أن يتناول النقاد هذه الحالات التي ستنتشر مستقبلًا فإننا سنفاجأ بالناقد الإلكتروني أو الناقد الاصطناعي.
ما أوردناه في اثر الذكاء الاصطناعي في البحث الأكاديمي، وكيف يجب أن يتم بالقوانين المنظمة والأخلاقيات لا يمكن أن نسقطه على الفنون، لا يمكن تقنين الإلهام عند المبدع، أو أن نطالبه بالالتزام “بأخلاقيات الإبداع” ولا الذوق عند المتلقي.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.