سيمياء العرض المسرحي.. تطبيق على مسرحية “المهرج” العرض السوداني نموذجًا

بقلم: ياسر عوض

#ملف_الهدف_الثقافي

مقدمة: يعتبر علم السيمياء من مناهج مرحلة ما بعد الحداثة. هذا العلم الذي يحفر بعيدًا في العلامات المسرحية فيما يمكن تسميته أركيولوجيا النص المرئي، انطلاقًا من الدال والمدلول. يبحث إبداعيًا محاولًا استنطاق النص المرئي وعناصر بنائه الدرامي “في عملية مبنى الشخصيات التي تصنع الفعل أو التي يؤثر الحدث في مصائرها، والحبكة والحوار والزمان والمكان والعناصر السمعية والمرئية” من خلال العلامة التي توميء إلى عوالم الإشارة والحركة، والفضاء النصي بما يحمله أو يحمَله من سنوجرافيا، وعلامات المعنى التي تتمظهر في العرض المسرحي.

لذلك رأينا إيضاح بعض جوانب التحليل السيميائي، ومنهجه النظري وطبيعته وعلاقته بالعرض المسرحي الذي نشير إليه بالنص المرئي، الذي ستستند إليه هذه الدراسة.

مصطلحات وإجراءات المنهج السيميائي:

  • ماهية العلامة: بالرجوع إلى أهم منظري المنهج السيميائي في العصر الحديث دي سوسير (1857-1913) وتشارلس بيرس (1839-1914) فالعلامة تتكون من دال ومدلول. فالدال حسب سوسير هو الصورة الصوتية، والمدلول هو الصورة الذهنية المتولدة عنها. وأيضًا للمرئي فالدال هو الصورة المرئية حسب نسق العرض والمدلول هو الصورة الذهنية المتولدة من ذلك. وفي سياق العلامة هناك مصطلحات مرتبطة بالعلامة: الإزاحة الدلالية، العلامة السياقية، العلامة المركبة، العلامة الشارحة.
  • الإزاحة الدلالية: تحول العلامة من مدلول إلى مدلول آخر. ويعني هذا خلخلة المعنى الأول وإزاحته إلى معنى جديد من خلال تغير بعض صفات الدال. مثال كرسي عليه إضاءة وردية دلالة على الزمن الجميل الديمقراطي. تغير إضاءة الكرسي إلى الأحمر القاني دلالة على الصراع عليه والدم الذي سكب للوصول إلى السلطة.
  • العلامة السياقية: هي العلامة التي لا يتغير مدلولها إلا بتغير السياق الدرامي الذي وضعت فيه. مثال لذلك سكين يحملها البطل لقطع وتقشير البرتقال وتقديمه لحبيبته. نفس السكين يحملها البطل للانتقام من قاتل أبيه. لا يتغير الدال ولكن يتغير السياق الدرامي الذي وضع فيه الدال.
  • العلامة المركبة: هما علامتان تحمل كل واحدة منهما معنى قائمًا بذاته، ولكن عند استخدامهما معًا يتولد معنى ثالث جديد. ومثال لهما القلب والسهم، فكل علامة تحمل معنى منفصل، فالقلب هو رمز الحياة والحب، والسهم هو أحد رموز الحرب. ولكن عندما نضع السهم في القلب يتولد معنى جديد هو الانكسار والهزيمة العاطفية.
  • العلامة الشارحة: هي علامة جاءت لتشرح علامة أخرى وتوضحها. مثال لذلك الكرسي والمعنى المتعارف عليه الذي يرد إلى الذهن هو أثاث للجلوس عليه، ولكن عندما يأتي في سياق الحوار أن هذا الكرسي مكسور الأرجل تحولت الدلالة إلى معنى العجز والكساح وتحول إلى علامة رمزية. وتحول الحوار إلى علامة شارحة لمعطى دلالي سابق وهو الكرسي.

خطوات استخدام المنهج: دلالة العنوان، عرض فكرة النص المرئي بإيجاز، دلالة بنية المكان والزمان، دلالة بنية اللغة: الكلمة تمثل علامة ونغم، الصوت بمثل علامة واستخدام المفردة وتكرارها ونمط الحوار إذا كان إخباريًا أو تقريريًا أو استفهاميًا، دلالة بنية الشخصيات والتعبير الجسدي وملابسها وإكسسواراتها ومكياجها والانتقال من مكان إلى آخر، ودلالة البنية الكلية.

النموذج التطبيقي: مسرحية “المهرج” للكاتب السوري محمد الماغوط، وتمت سودنة النص من خلال الكاتب المسرحي مصطفى أحمد الخليفة، وتمثيل فرقة الأصدقاء المسرحية، وإخراج محمد نعيم سعد.

استمر عرض المسرحية لمدة خمس سنوات، وأعيد عرضها بعد 25 عامًا في ذكرى تأسيس الفرقة. كما أن هذه المسرحية طافت عددًا من الأقطار العربية كاليمن والذي شاركت فيها ممثلة يمنية كأول سابقة لعرض سوداني بممثلين عرب.

دلالة العنوان “المهرج”: بالرجوع إلى المعاجم اللغوية يمكن تفسير اسم المهرج ومرجعياته اللغوية:

  • معجم الغني: مُهَرِّجٌ [هـ ر ج]. (فا. من هَرَّجَ) كَانَ مِنْ بَيْنِ الْمُهَرِّجِينَ: مَنْ يُحْدِثُ الفَوْضَى والتَّشْوِيشَ فِي قَاعَةٍ أو مَلْعَبٍ. مُهَرِّجُ السِّرْكِ: البَهْلَوَانِيُّ، أَيْ مَنْ يُضْحِكُ النَّاسَ بِحَرَكَاتِهِ وأَلْعَابِهِ.
  • معجم الرائد: مهرج (هرج) 1-فا. 2-من يمزح في حديثه ويأتي ما يضحك منه.
  • المعجم الوسيط: المهرج من يروج الهَرْج والمرْج ويذيع الأباطيل المزيفة، ومن يُضحك القوم بحركاته وكلماته وهيئته.
  • معجم لغة الفقهاء: المهرج بضم الميم وكسر الراء اسم فاعل من هرج، وأصل الهرج: كثرة الشيء واختلاطه.

المعنى الدلالي للعنوان: ومن هذه المعاني يكون العنوان دلالة على الشخص الذي يُضحك الناس وليس له موقف وجودي أو جدي تجاه الحياة. وهو شخص عبثي في سلوكه ومظهره. وبذلك يهيئنا العنوان إلى بطل هو المهرج.

عرض فكرة النص المرئي بإيجاز: يقوم العرض المسرحي على فكرة فرقة مسرحية تقوم بعرض أعمال درامية في مقهى شعبي. بطل هذه الفرقة يؤدي عددًا من الشخصيات الدرامية في قالب هزلي كمشهد المنديل في رائعة شكسبير. يحاول أن يؤدي شخصية عبد الرحمن الداخل صقر قريش ويتفاجأ بالحضور يرفض الأداء ويدخل في صراع بدني معهم ويشرد بذاكرته مستدعيًا صقر قريش في عصرنا هذا. الذي يجد أن المجتمع العربي قد تغير، ويتحول صقر قريش إلى زنزانة عرض للاستثمار، ويتم بيعه إلى الحكومة الإسبانية كمجرم حرب مقابل شحنة من البصل ويُطلب من الممثل أن يؤدي دور صقر قريش في زنزانة العرض الاستثماري. تنتهي المسرحية باستيقاظ الممثل من حلمه ليجد نفسه في نفس المقهى.

طرحت المسرحية ثوابت النضال الشعبي العربي كقضية فلسطين والتحول الديمقراطي وتداول السلطة والسوق المفتوح والبطالة والهيمنة الاستعمارية والفن السوقي الهابط والقيم والأخلاق والفساد.

دلالة بنية الشخصيات والتعبير الجسدي وملابسها وإكسسواراتها ومكياجها والانتقال من مكان إلى آخر: يبتدئ النص المرئي بعدد من الشخصيات نميز منها:

  • ديجانقو صاحب المقهى واثنين من رواد المقهى: يدخل عليهم معلم يحمل أوراقًا. من ارتباط المجيء صباحًا مع الافتتاح تمت الإشارة إلى أن الشخصيات تقع تحت ثقل اللا عمل، ومن الأزياء السودانية “البنطال والقميص” نلمح بأنهما من الطبقة الوسطى التي سحقها الواقع السياسي وتقضي كل يومها في المقهى، والمعلم ونظارته وأوراقه ومعرفة الشخصين به تدل على أنه معلم بالمعاش، في إشارة إلى أن المعلمين لا يتم الاستفادة منهم بعد التقاعد.
  • صاحب المقهى اسمه ديجانقو: وديجانقو هو شخصية الكاوبوي في الأفلام الأمريكية ومشهور في السودان كبطل أسطوري لا يموت. يرتدي ملابس العمل الشعبية الفقيرة. الاسم وملابسه وإكسسواراته تدل على شخصية غير نمطية تقاتل من أجل الحياة وتحاول أن تتواءم مع الوضع الاقتصادي المنهار.
  • المهرج وجوقته: نكتشفهم من خلال ملابس المهرج التي تشابه البلياتشو وتعريفه لنفسه بأنه ممثل. لكنه ممثل يقود فرقة مسرحية هزلية فاشلة، تقدم عروضها في المقاهي رغم أنف الرواد، في دلالة على عدم اعتراف الدولة بالفنون وتخصيص الأماكن لعرضها، مما دعا الفنانين للتشرد وفرض أنفسهم على واقع مسحوق لا يفهمهم، لأنه يركض خلف لقمة العيش فلم يجدوا غير المقاهي لعروضهم المسرحية. الجوقة عبارة عن تكوينات إشارية ديكورية يتبادلون أداء شخصيات بدون أسماء حسب سياق العرض، ويكتفون بالتعليقات الجماعية في دلالة على الكتل البشرية الجمعية التي يقودها مهرج هزلي فاشل.
  • شخصية الممثل الرئيسي: والذي يؤدي أدوارًا في الفرقة ويتم تطويره ليكون المهرج حفيد عبد الرحمن الداخل صقر قريش، وصلة الوصل بين الماضي والحاضر، ومن خلاله يتم استدعاء صقر قريش للواقع المعاصر. هذه الشخصية لا تختلف في لبسها كثيرًا عن الجوقة وأدائه لشخصية عطيل في عرض لا يشاهده أحد يدل على خريجي كليات الدراما الذين تفتتوا بين المقاهي يحملون علمًا ومعرفة ولا يجدون مكانهم الطبيعي في قيادة المجتمع.
  • صقر قريش: يرتدي ملابس تاريخية ويحمل سيفًا خشبيًا في إشارة لعدم الفعالية وانقضاء عصره.

دلالة بنية المكان والزمان:

  • تفتح الستارة على مقهى ديجانقو ونجد مع نور الصباح اثنين من رواد المقهى جالسين في دلالة بأن حياة الناس مرتبطة بالمقاهي الشعبية التي تواصل الحياة رغم المهددات. المقهى شعبي وبدون كراسي ولكن يتم إضاءة المكان في دلالة على نور الصباح ونلمح شخصين جالسين كأنهما كانا يبيتان في المقهى. وصاحب المقهى يفتح مقهاه في دلالة عميقة على ارتباطهما بالمقهى. وافتتاح اليوم بالجلوس على المقهى دلالة على التبطل وعدم وجود عمل. عندما يدخل المهرج وجوقته يدخلون معهم كراسيهم ولا يستخدمونها للجلوس وهنا الدلالة تبحث عن معنى اللا راحة.
  • تدخل الفتاة وتحاول جوقة المهرج التودد لها من خلال كرسي وحيد يحاول الكل الجلوس عليه، ولكن كل واحد يسحبه من الذي أمامه فيسقط بالتوالي وينتهي بالكرسي مقلوبًا على الأرض. الإشارة هنا تؤكد على دور المرأة كنقطة جذب مركزية والكرسي دلالة على السلطة التي لا تستقر على حال. ويتحول الكرسي إلى منبر خطابي يقف عليه المهرج ليتحدث كالخطباء السياسيين وسط تصفيق الجوقة وصيحات عاش الزعيم، في إزاحة دلالية للدال الكرسي عن معناه كأداة للجلوس إلى رمز للسلطة.
  • يتوالى التعامل مع الكراسي في نزاع بين صاحب المقهى ومحاولته طرد المهرج وبين حركة الكراسي في أيدي الجوقة لتشكل دائرة حول المهرج الذي يقول بأن هذه الكراسي هي كراسي الشعب. وهنا يتم التأكيد على الإزاحة الدلالية للكرسي.
  • التغير المكاني للرجوع للماضي تم باستخدام الإضاءة وشبه الإظلام مع حركة الممثل كعلامة مركبة ضمن سياق درامي يعود بالمهرج إلى خيمة في أرض جرداء، دلالة على الموت. وتم تفكيك المقهى بالاستفادة من شبه الإظلام.
  • ظهور صقر قريش في نقطة حدودية كانت إشارة إلى منع العبور وتشكيل صراع مكاني في دلالة حرية التنقل.

دلالة بنية اللغة: استخدم النص اللهجة السودانية المنتقاة من الشارع، إما بغرض السخرية أو المفارقة والتناقض، فالشخصيات تتحدث حوارها ومفرداتها التي تدل على شخصيتها. فالمعلم يتحدث اللغة العربية الفصحى دلالة على أنه معلم لغة عربية والمهرج الأول يمزج بين العامية والفصحى وهي لغة المثقفين السودانيين، والشرطي في الحدود يتحدث بالمفردة الإجرائية التي تتعلق بعمله وصقر قريش وأتباعه وأعوانه يتحدثون اللغة العربية الفصحى المرتبطة بالقتال والجهاد. وممثل الحكومة يتحدث بالعنتريات وينتهي به الأمر إلى بيع صقر قريش للأسبان.

دلالة بنية الموسيقى: تم توظيف الأغاني لدلالات مختلفة للإشارة إلى أماكن، كأغنية فيروز للدلالة على فلسطين، وموسيقى راقصة للدلالة على الانهيار الأخلاقي المرتبط بالرقص مما أضاف علامة شارحة من خلال تقديم علامة الموسيقى لتشرحها علامة الرقص.

دلالة البنية الكلية: تم توليد عرض مسرحي سوداني كوميدي من مسرحية عربية مكتوبة باللغة الفصحى. يتكون العرض من ثلاثة مشاهد، وهي المقهى الشعبي الذي يفتتح به العرض، والذي ينتهي بإيصال الممثل إلى عالم البرزخ ليلتقي بجده صقر قريش في دلالة كلية للمشهد بأن التراث الشعبي في كافة مكوناته هو صلتنا بالجدود والصفحات المشرقة من تاريخنا. المشهد الثاني هو مشهد لقاء الممثل بجده صقر قريش وفرسانه في عالم الحلم، والدلالة الكلية للمشهد بأن التناقض بين الحاضر والماضي لا يمكن فهمه، لأن الحاضر كان يجب أن يكون امتدادًا للماضي وابنًا شرعيًا له. المشهد الثالث هو النقطة الحدودية التي يستدعى إليها صقر قريش وحفيده والتي بها سجن يتصدر المشهد، في دلالة كلية بأن فكرة الحدود والتجزئة هي سجن للعربي وأحلامه بالوحدة وبيع لماضيه الجميل، وغربة ثقافية تحول بينه والعبور إلى أهدافه.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.