سميري الفي ضميري

بقلم: أ.د.أمير محمد حسين
#ملف_الهدف_الثقافي
في قريتنا الوادعة، عند منحنى النيل العظيم، كانت الليلة ليلة عُرسٍ مشهود. اجتمع الناس تحت ضوء القمر وزينة الساحة، وبين أصوات الزغاريد وخليط من رائحة الدلكة والمحلب وفتة الخروف والكمونية والفطير.
الجميع ينتظرون ليلةً مليئةً بالمواقف الطريفة والذكريات التي لا تُنسى.
على طرف الساحة، جلست الحاجة ست النفر في المكان المعتاد للحبوبات، تُراقب الحفل بعينيها الصغيرتين الحادّتين. الأجداد لم يكونوا هناك، إذ إنهم يعتبرون هذا الشيء “مسخرة” بحكم التقاليد.
المغني بدأ يغني بصوت شجي:
وين سميري.. سميري الفي ضميري..
نزلت مني دمعة..
واليوم كان جمعة..
والأمة مجتمعة..
وين سميري؟
عند سماع الكلمات، شعرت ست النفر وكأن الأغنية وُجهت إليها مباشرة.
انهمرت دموعها فجأة، وبدأت تمسح عينيها بطرف التوب، لكن دموعها لم تمر دون ملاحظة بت الصديق التي كانت تجلس بجانبها.
مالك يا ست النفر؟ الأغنية هذه هزّتك بشدة كأنها عن بعلك.
تنهدت ست النفر وقالت: يا بت الصديق، ولدي سمير.. سنتين لم أراه. ودي لو أراءه وأسمع صوته.. لكن الله غالب، أخذته الخرطوم منا.
في زاوية أخرى من الحفل، كان الفاضل ود الخليفة، الذي عقد قرانه على نفيسة بت حاج الطاهر العام الماضي، يجاهد لإخفاء انزعاجه. فقد جاء إلى الحفل بدون زوجته التي ما زالت تتزين في البيت.
ود الخليفة، الذي لم يستمع يومًا إلى راغب علامة يغني (نسيني الدنيا)، أو إلى براد بيزلي في (في انتظار امرأة)، كان الرجل السوداني التقليدي الذي يرى الرومانسية نوعًا من “الحنكشة” غير المبررة.
قال في سره: يا أخي لا يعقل هذا.. جربت كل الفساتين، وليست جاهزة بعد. لنرى، سوف يمضي هذا العرس بدونها!”.
جلس يحاول التظاهر بالهدوء، لكن كلمات الأغنية أصابت قلبه في مقتل:
جن مرات تلاته..
وفيهم زولتي زاتا..
لم يستطع تحمّل الأمر أكثر. قام فجأة وقال بصوتٍ عالٍ: لا ينفع هذا الكلام! هذا العُرس لا يكتمل من غير نفيسة.
ركض عائدًا إلى البيت ليُحضرها بنفسه، تاركًا أصحابه في دهشةٍ وحيرة. وجدها جالسة أمام المرآة، صارةً بوزها كما تصر الجدات العُملة المعدنية في أطراف أثوابهن.
قمي يا زولة، قمي! الناس كلهم جالسين هناك، وصاحبتك العروس في انتظارك. جردتني نظرات الناس من كل كرامة.
ردت عليه بغضب: ذهبت وحدك و تركتني هنا كأنني لا شيء؟ طيب، انتظرني حتى أجهز.
تجهزي لماذا؟ والله ان لم تأتي، لارجع و اخبر الجميع بان العروس والعرس نفسه لا يروقان لك.
بعد محاولاتٍ مضنية، نجح ود الخليفة في إقناعها، لكنها لم تُغادر البيت إلا بعد أن حلف لها ثلاث مرات أنه لن يتركها في أي حفلٍ آخــر.
عاد ود الخليفة إلى الحفل مع زوجته وسط التصفيق والزغاريد. الجميع بدأ يغني مع المغني الذي زاد حماسه:
يا مراكبي عديني.. حبيبي راجيني..
وين سميري؟ سميري الفي ضميري..
ولكن، وسط فرحة الحضور، انطلق صوت مألوف من خلف الساحة: وين سميري؟ أنا هنا يا أمي! كان ذلك صوت سمير ود ست النفر، الذي ظهر فجأة بعد غيابٍ دام سنتين. نظرت ست النفر إلى مصدر الصوت، وركضت نحوه كما لم تركض من قبل.
يا سمير! ولدي رجع
احتضنته ست النفر وسط دموع الفرح وتصفيق الحاضرين، الذين لم يتوقعوا أن تكون نهاية الحفل بهذا الجمال.
بين حضور زوجة ود الخليفة، وعودة سمير، وأغنية سميري الفي ضميري، تحوّل الحفل إلى ذكرى لا تُنسى. ضحك الناس على مواقف ود الخليفة وزوجته، وبكوا من فرحة ست النفر وابنها.
الأغنية التي بدأت كإيقاعٍ عادي أصبحت في قريتنا رمزًا للحب، للوفاء، وللحنين الذي يُعيد البعيد إلى حضن أهله.
عندما انتهت الليلة، قالت بت الصديق ساخرة:
يا ناس، هذه الليلة لم تكن محض عرس، بل كانت احتفالاً برجوع الغائبين!
سميري الفي ضميري.. نزلت مني دمعة..
كانت أغنية حفرت مكانها في قلب كل من حضر تلك الليلة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.