المثقفون السودانيون.. من صكوك الثورة إلى موائد الطغاة

بقلم: مهدي داؤود الخليفة

#ملف_الهدف_الثقافي

حين صدح الرئيس الأمريكي جون كينيدي في خطابه الشهير عام 1961: “لا تسألْ ما الذي يمكن أن يقدمه الوطن لك، بل اسأل ما الذي يمكنك أن تقدمه لوطنك”، كانت كلماته بمثابة اختبار أخلاقي لأي نخبة وطنية، فكيف لو طُبّقت هذه العبارة على حال النخبة السودانية؟ وهل يا ترى يجرؤ كثير من المتعلمين السودانيين، على طرح هذا السؤال على أنفسهم دون أن تختنق الإجابة في صدورهم؟

تعيش النخب السودانية، منذ الاستقلال وحتى اللحظة، حالة من التردد والاضطراب الوجودي، حيث ظل المثقف السوداني يتأرجح بين موقع “الضمير الوطني” و”المتواطئ مع السلطة”. وقد أدى هذا الاضطراب إلى حالة عميقة من الفشل البنيوي في المشروع الوطني السوداني، لا بسبب العسكر وحدهم، بل أيضًا بسبب نخب مدنية وفكرية سكتت عن الظلم، وروّجت للاستبداد، بل وشاركت فيه.

يعرف أنطونيو غرامشي المثقف بأنه “الفاعل الذي ينتج المعنى في صلب صراع اجتماعي”، ويميز بين المثقف العضوي المنخرط في قضايا شعبه، والمثقف التقليدي المرتبط بالسلطة ومراكز الهيمنة.

أما إدوارد سعيد فيعتبر المثقف “صاحب موقف أخلاقي دائم المعارضة للسلطة الظالمة، والمدافع عن العدالة، حتى حين يكون ذلك مكلفًا”.

بالمقارنة، يفتقر المشهد السوداني إلى نماذج مستمرة للمثقف العضوي؛ إذ غالبًا ما تم استبدال المثقف النقدي بـ”المثقف التنفيذي”، أو من يُعرف محليًا بـ”الناشط الانتهازي”، الذي يغيّر مواقفه بتغيّر الجهات المهيمنة.

لم تكن أزمة المثقف السوداني أزمة فردية أو أخلاقية فقط، بل كانت في جوهرها أزمة بنيوية تمسّ علاقته بالسلطة، وبالجماهير، وبالمنظومة القيمية التي يُفترض أن يدافع عنها. وقد تنوعت أشكال هذا الفشل، من التبرير الأيديولوجي للأنظمة القمعية، إلى انتهازية الموقف، إلى التحول نحو خطاب جهوي أو عرقي في لحظات الحرب، مما أفقد المثقف دوره كمُنتج للمعنى ومقاوم للهيمنة، بحسب المفهوم الغرامشي.

منذ انقلاب الفريق إبراهيم عبود (1958)، بدأ ما يمكن تسميته بـ”تدجين النخبة السودانية”، حيث استُقطب عدد من المثقفين من صفوف مؤتمر الخريجين إلى دواوين السلطة.

الأمثلة تتكرر مع نظام مايو، والإنقاذ، وحتى اليوم مع نظام البرهان في ظل الحرب الدائرة: الأستاذ أحمد خير: الذي لمع اسمه في مقاومة الاستعمار، قبل أن يكون أول وزير خارجية في نظام عبود الانقلابي، يمثل مفارقة صارخة بين الفكر والممارسة. عبد الباسط سبدرات: نموذج للمثقف المتحول مع كل نظام، من الديمقراطية إلى الإسلاميين. بعض مَن ينتمون إلى القوى السياسية: تحولوا من الدعوة إلى الحرية، إلى مساندة الأنظمة الديكتاتورية.

هذا التبدل يعكس غياب البوصلة الأخلاقية، وانتصار المصلحة الذاتية على الموقف الوطني. إنّ التبرير المكرر من بعضهم “نحن نحاول إصلاح النظام من الداخل”، لم يكن سوى ستاراً لأجندة ذاتية، صنعت من النخبة أداة في يد السلطة، بدل أن تكون ضميرها الناقد.

في كتابه الأشهر “النخبة السودانية وإدمان الفشل”، قدّم د.منصور خالد واحدًا من أعمق تشخيصات الحالة السودانية. لقد وصف أزمة السودان بأنها أزمة نخبة قبل أن تكون أزمة نظام. وتحديدًا، تحدث عن:

  • التحالفات الانتهازية التي تعقدها النخبة مع كل نظام يأتي، ثم تتخلى عنه عند سقوطه.
  • الهوية المختزلة ومحاولة فرض نموذج ثقافي أو ديني واحد.
  • الانفصال عن المجتمع، حيث يعيش المثقف في برج عاجي بعيداً عن هموم الناس.
  • الازدواج القيمي: في المساء يتغنون بالحرية، وفي الصباح يكتبون خطب الطغاة.

قسّم الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي المثقفين إلى صنفين: المثقف العضوي: المنغمس في قضايا شعبه، والذي يدفع الثمن من حريته. المثقف التقليدي/النرجسي: الذي يرى نفسه فوق المجتمع، ويمنح صكوك الوطنية والثورية لمن يشاء.

أما المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، فقد عرّف المثقف بأنه “ضمير مجتمعه”، لا يبيع فكره للسلطة، بل يظل في حالة صراع دائم مع الظلم والفساد. وقال: “ليس المثقف من يحمل شهادة، بل من يرفض أن يُشترى، ويقول لا عندما يقول الجميع نعم”.

وبالنظر إلى المشهد السوداني، نجد أن الأغلبية ممن يسمون أنفسهم “مثقفين” هم أقرب إلى تعريف سعيد للمثقف السلطوي، الذي زيّن للطغاة طغيانهم وساهم في تطويل أمد استبدادهم.

في الحقبة الأخيرة، ومع تصاعد الحروب والانهيارات، برزت طبقة جديدة تسمي نفسها “الناشط السياسي”، لكنها لا تملك رؤية أو فكر. هؤلاء، وفق تحليل د.عزمي بشارة ود.السيد يس، ليسوا مثقفين بالمعنى التنويري، بل “أصوات صاخبة” تملأ الفراغ الذي تركه غياب المثقف العضوي.

في السودان، ساهم الإعلام ووسائط التواصل في تضخيم هذه الفئة، خاصة عقب ثورة ديسمبر 2018 فصار “الناشط” من يرفع صوته أكثر، لا من يقدم رؤية. وهذا مكّن السلطة – القديمة والجديدة – من تجنيد هؤلاء لتمرير أجندتها، بدل التعامل مع المثقف الناقد صاحب المشروع.

أوضحت الحرب الدائرة منذ أبريل 2023 أن المثقف السوداني، حين وُضع أمام الاختبار، لم يكن في صف الوطن، بل في صف الجهة التي ينتمي إليها عرقيًا أو أيديولوجيًا. بدل أن يكون صوتًا للعقل، صار صوتًا لأحد طرفي الحرب. وبدلاً من أن يدعو لوقف الحرب، صار يحلّلها وفق خطاب جهوي، يضيف للدم مزيدًا من الزيت.

كتب المفكر المصري عمار علي حسن عن “المثقف عديم الضمير”، الذي يزين أفعال الطغاة ثم يتنكر لهم عندما يسقطون، ثم يعود لاحقًا لتزيين سلطان جديد. يقول: “الحظيرة على حالها.. فقط الحارس تغيّر”.

ونحن نقول: إن لم يكن للمثقف السوداني موقف حقيقي اليوم، فإن الوطن لا يحتاج منه أن يتحدث، فليصمت. الصمت أقل خيانة من أن يُستخدم قلمه في تبرير الحرب والخراب.

إن السودان في أمسّ الحاجة اليوم إلى مثقفين لا تُشترى مواقفهم، يرفضون الركون إلى المظلات الجهوية أو المصالح الضيقة، ويجعلون من الفكر أداة لتحرير الإنسان السوداني، لا تسويغه لاستعباد جديد. فكما قال إدوارد سعيد: “المثقف ليس من يسير خلف السلطان، بل من يقف في وجهه إذا ظلم”.

يُشكّل هذا المقال جزءًا من ورقة بحثية موسّعة بعنوان (المثقف السوداني بين خيانة الوعي وإدمان الفشل: دراسة تحليلية نقدية لدور النخبة في أزمة الدولة السودانية)، التي تتناول تقصي الأسباب الكامنة وراء أزمات السودان من منظور النخب الفكرية والسياسية.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.