
أ. عبد الله رزق أبو سيمازه أ. طارق عبد اللطيف ابو عكرمة
المقدمة: حدود الجغرافيا أم جغرافيا الهيمنة؟
تعاني العلاقة بين السودان ومصر من اختلال بنيوي مزمن يتجلى في هيمنة ناعمة ثقافيًا وسياسية مكشوفة أحيانًا. وبين خطاب العاطفة التاريخية والتكامل، يكمن واقع صعب من اختلال المصالح وتكريس التبعية. تهدف هذه المقالة إلى نقد هذا النمط وتحليل جذوره، من أجل بناء علاقة جديدة قائمة على الندية والمصالح المتوازنة، ضمن عقد جيوسياسي يعترف بالسودان كدولة ذات سيادة لا تابعة. ليست العلاقة بين السودان ومصر مجرد تجاور جغرافي على ضفاف نهر النيل، بل هي علاقة معقدة، مركّبة، تنوس بين التاريخ والمصالح، بين الرغبة في الوحدة والخوف من الذوبان، بين الشراكة الممكنة والهيمنة المقنّعة. وإذا كانت الجغرافيا السياسية لشمال شرق إفريقيا قد تشكّلت، منذ قرون، على وقع هذه العلاقة الثنائية، فإن استمرارها على النمط القائم لم يعد مقبولًا أو قابلًا للاستدامة. ذلك أن منطق (التاريخ المشترك) و(الجوار الطبيعي) – على أهميته – لا يكفي لتبرير اختلالات جوهرية تتعلق بالسيادة، والاستقلال السياسي، والعدالة الاقتصادية.
هذه العلاقة، بكل ما تحمله من تشابكات، تطرح سؤالًا وجوديًا على السودانيين: هل العلاقة مع مصر علاقة تكافلية تقوم على تبادل المصالح؟ أم علاقة تبعية تُعيد إنتاج نمط استعماري ناعم؟ وهل ما زالت مصر تنظر إلى السودان بوصفه دولة كاملة السيادة، أم (حديقة خلفية) يُعاد ترتيبها وفق ضرورات أمنها القومي؟ وفي المقابل، هل نجحت النخب السودانية في بلورة تصور وطني مستقل للعلاقة مع القاهرة، أم أنها ساهمت، وبتفاوت، في تكريس خطاب التبعية والارتباك؟
تسعى هذه المقالة إلى مقاربة العلاقة السودانية–المصرية من منظور جدلي نقدي، يضع مفاهيم السيادة مقابل الهيمنة، الجوار مقابل الاستيعاب، والتحالف مقابل الاستتباع في قلب التحليل. ونبدأ أولًا من الجذور: من التاريخ العميق الذي سبق الكولونيالية، حتى سرديات ما بعد الاستقلال.
أولًا: تأصيل تاريخي – من النوبة إلى اتفاقيات ما بعد الاستقلال:
إن تأريخ العلاقة بين مصر والسودان لا يبدأ مع إعلان استقلال الخرطوم عام (1956)، بل يضرب بجذوره في أعماق حضارات وادي النيل القديمة. فقد كانت الممالك النوبية، خصوصًا في نبتة ومروي، جزءًا من تركيبة حضارية معقّدة، لم تكن (تابعة) للمركز المصري، بل شكلت أحيانًا مركزًا بديلًا كما في عهد الأسرة الخامسة والعشرين التي حكمت مصر نفسها.
لكن مع مجيء الاستعمار الحديث، أعيدت صياغة العلاقة بطريقة أكثر راديكالية. فقد جاء (الحكم الثنائي) (الإنجليزي–المصري) ليحوّل السودان إلى مشروع جيوسياسي يخدم مصالح بريطانيا في المقام الأول، لكنه سمح لمصر، عبر الرمزية والخطاب، أن تتخيل نفسها شريكًا في إدارة السودان، بل مالكًا لـ(حق تاريخي) فيه منذ غزو اسماعيل باشا للسودان القديم، وتخطيط سودان جديد، على أنقاض الممالك القديمة.
ومع ذلك، فإن هذه الحقبة لم تكن سوى تمهيد لسردية ما بعد الاستقلال، حيث بقيت مصر، في خطابها الرسمي أحيانًا، ونخبها الفكرية والإعلامية غالبًا، تنظر إلى السودان باعتباره امتدادًا طبيعيًا لمجالها الحيوي، يجب ألا يخرج عن فلكها. وتجلّى ذلك في توترات متكررة: من دعم مصر لانقلاب إبراهيم عبود عام (1958)، إلى علاقة الرئيس نميري بالقاهرة، مرورًا بحالة (الاحتضان الحذر) التي تعاملت بها الدولة المصرية مع نظام (الإنقاذ) الإسلاموي في التسعينيات، رغم ما بينهما من تباينات أيديولوجية.
لقد ورث السودان من هذه المرحلة علاقة فيها من العاطفة ما يطمس الأسئلة، وفيها من الإكراه ما يُصادر السيادة. ولذلك فإن العودة إلى هذا الجذر ليست فقط لفهم الماضي، بل لبناء مفردات جديدة للعلاقة: مفردات تُعيد تعريف وحدة وادي النيل ، التي ظلت ملهمة للنضال الوطني ضد الاستعمار ، والانفراد البريطاني بحكم السودان ، و بالكفاح المشترك ،بالجلاء في مصر ، حتى ( التكامل ) ، باعتباره الحد الأدنى من المصلحة المشتركة ، ويثير طغيان شعار( وحدة وادي النيل )، في الفضاء السياسي ، ملهما للنضال الوطني ، طوال العقود الثلاثة التي تلت حركة وانتفاضة اللواء الابيض ، السؤال ، عما إذا بالإمكان إعادة إحياء الشعار نفسه، بنفس القوة والعنفوان، ملهما كما كان ، ضمن ظروف جديدة ، للتغلب على التحديات التي تواجه البلدين. لا بوصفها ما يحدده الطرف الأقوى، بل بوصفها تعاقدًا متوازنًا بين دولتين كاملتي السيادة.
سننتقل في الفقرة التالية إلى الإجابة على سؤال محور هل (مصر والجيش السوداني: تحالف بنيوي أم اختراق تاريخي؟) حيث يتضح كيف تم استخدام المؤسسة العسكرية السودانية كأداة لتثبيت النفوذ المصري الناعم، ومن ثم السياسي، في قلب الدولة السودانية. وإذا كانت الجذور التاريخية تشرح كيف تأسست عقلية الهيمنة، فإن المؤسسة العسكرية السودانية كانت، على مدى العقود، أبرز أدوات استمرار هذا النمط من العلاقة. فالجيش لم يكن مجرد طرف محلي، بل قناة بنيوية لعبور التأثير المصري إلى قلب الدولة.
ثانيًا: مصر والجيش السوداني – تحالف بنيوي أم اختراق تاريخي؟:
لا يمكن فهم العلاقة بين مصر والسودان دون التوقف الطويل أمام موقع المؤسسة العسكرية السودانية ضمن هذه العلاقة. فبينما يبدو في الظاهر أن مصر تقف على مسافة واحدة من الأطراف السودانية، يشير التحليل البنيوي إلى أن المؤسسة العسكرية – وتحديدًا الجيش النظامي – كانت وما تزال نقطة الارتكاز المصرية في السودان، إن لم نقل (الامتداد المصري الأكثر ديمومة وفاعلية).
لقد مثّل الجيش السوداني، منذ الاستقلال، أحد أعمدة العلاقة الاستراتيجية بين البلدين، لا بوصفه مؤسسة وطنية ذات عقيدة مهنية خالصة، بل بوصفه – في نظر بعض الأنظمة المصرية – (شريكًا أمنيًا) في تحقيق الاستقرار، وحائط صدّ أمام أي مشاريع سياسية سودانية قد تهدد المنظور المصري لمصالحها القومية، وخاصة ما يتعلق بأمن النيل، والحدود الجنوبية، وموقع السودان في توازنات حوض النيل والبحر الأحمر.
وهو ما عبّرت عنه بوضوح (دكتورة أماني الطويل) في دراستها الأخيرة (مارس 2025) حين أشارت إلى أن (مصر ترى في الجيش السوداني – بصيغته القائمة – أداة مضمونة لتمثيل مصالحها في السودان، أكثر من أي تحالف مدني عابر أو سلطة منتخبة يصعب التحكم في مساراتها). وقدّمت الطويل، دون مواربة، (خريطة طريق) لمصر تتضمن دعم الجيش في المرحلة الانتقالية، بل وإعادة بنائه بمعايير مصرية – سودانية، على غرار النموذج المصري للجيش الوطني المندمج في الدولة.
لكن السؤال هنا ليس عن رغبة مصر في بناء جيش سوداني قوي – وهو أمر مشروع لو كان وفق قواعد الاحترام المتبادل – بل عن طبيعة هذا الجيش: لمن يدين؟ وأي عقيدة يُستبطن؟ وهل هو جيشٌ للوطن، أم جيشٌ لصالح قوى داخلية وخارجية؟
هذا ما تفكّكه بجرأة الكاتبة (أ. رشا عوض) في مقالها التحليلي حين تساءلت: (هل الجيش السوداني هو جيش سوداني اسمًا، مصري الجوهر، منذ عام 1956؟)، مؤكدة على أن مصر لم تكن فقط حاضنة سياسية لبعض قيادات المؤسسة العسكرية السودانية، بل كانت، في فترات متعددة، شريكًا في صياغة دوره السياسي، وتمكينه من موارد الدولة، وتكريس عقيدة أمنية ترى في مصر المرجع، وفي التحول المدني تهديدًا.
لقد أدّى هذا النمط من العلاقة إلى كارثة مزدوجة: من جهة، أصبح الجيش السوداني حجر عثرة أمام أي مشروع ديمقراطي حقيقي، ومن جهة أخرى، تم احتكار مسار العلاقات مع مصر من خلال المؤسسة العسكرية، لا عبر قنوات شعبية أو مدنية، مما أضعف فرص الشراكة المتوازنة، وحوّل العلاقة إلى ما يشبه (التحالف فوقي) بعيدًا عن رغبات الشعبين.
إن السؤال الجوهري هنا هو: هل يمكن فصل العلاقة المصرية–السودانية عن هذا التواطؤ البنيوي مع الجيش؟ وهل يمكن بناء علاقة جديدة مع مصر لا تمر عبر الجنرالات، بل عبر المؤسسات المدنية، والجامعات، والنقابات، والمجتمع المدني؟ بل الأهم: هل تستطيع مصر، في لحظة مراجعة تاريخية، أن تتخلى عن رهانها التقليدي على العسكر في السودان، وتقبل بسودان حر، ديمقراطي، متنوع، يفاوضها من موقع الندية لا التبعية؟
3. من خطاب الجوار إلى خطاب التبعية: تفكيك علاقة (الاستنساخ الثقافي):
إذا كانت السياسة قد رسّخت نمطًا من التبعية الأمنية والعسكرية بين مصر والسودان، فإن الثقافة – في وجهها الناعم – لعبت دورًا أكثر تعقيدًا وأشدّ تأثيرًا في صياغة علاقة تبعية رمزية، تم الترويج لها لعقود بوصفها (أخوّة) أو (وحدة مصير).
في كتابه الجريء (الهيمنة المصرية على السودان: الصيحة الأخيرة قبل الابتلاع)، يحفر (دكتور. النور حمد) في عمق هذه العلاقة، مستعينًا بأدوات تفكيكية تُعرّي الخطابات الثقافية التي سادت في السودان منذ الاستقلال – بل ومن قبله – والتي اعتبرت مصر (الأخت الكبرى) ليس فقط سياسيًا، بل ثقافيًا وأدبيًا وتربويًا. وهو ما أدى، بحسب النور، إلى (تحجيم المخيّلة الوطنية)، وتعميق شعور دفين بـ(الاستنساخ الاضطراري)، حيث بدا السودان كمن يعيش داخل مرآة مصر، لا في استقلال عن ظلها.
من الشعر إلى الصحافة، ومن المناهج الدراسية إلى الأنظمة التعليمية، ظلّ النموذج المصري هو (المصدر الأعلى)، يُستورد منه ويُعاد إنتاجه في السياق السوداني، وكأن السودان لا يملك إرثًا معرفيًا محليًا، ولا ذاكرة ثقافية مستقلة. تم تبنّي النماذج المسرحية والروائية والموسيقية المصرية بوصفها علامات حداثة، بينما أُهملت أو استُضعفت تعبيرات الهوية السودانية المركّبة، ذات الجذور الإفريقية والعربية والنيلية.
وهنا يبرز سؤال الوعي: كيف ساهم بعض المثقفين السودانيين في ترسيخ هذه العلاقة غير المتكافئة؟ أليس في ترديدهم لخطاب (مصر الرائدة) و(الاستنارة القادمة من الشمال) نوع من الخضوع الرمزي غير الواعي؟ وهل كان صمتهم عن الهيمنة الرمزية – بحجة الحداثة – مشاركة ضمنية في تجريد السودان من خصوصيته الثقافية والتاريخية؟ وهنا إشارة ضرورية إلى أن كلا من (دكتور. النور حمد) و(أ. رشا عوض)، انطلاقا من موقف نقدي، يلتقيان مع (دكتور اماني الطويل)، في حتمية العلاقة بين مصر والسودان، وحتمية إعادة تأسيسها، على قواعد جديدة من الوضوح ووعي المصالح المشتركة.
إن العلاقة مع مصر ليست إشكالية بحد ذاتها، بل الإشكالية تكمن في (نمط هذه العلاقة). فكما أشار (إدوارد سعيد) في نقده للاستشراق، فإن (الهيمنة الرمزية) لا تحتاج إلى قهر مباشر، بل تشتغل عبر المسكوت عنه، وعبر تقنيات الإعجاب غير الناقد، والتكرار دون مساءلة. وهو ما حدث في السودان، حين تم تحميل المشروع القومي المصري بوصفه (مشروعًا عربيًا شاملًا)، بينما كانت مكونات الهوية السودانية – من النوبة إلى دارفور، ومن الصوفية إلى الثقافة الإفريقية – تُهمّش باسم الوحدة الثقافية.
من هنا، فإن أحد أهم شروط إعادة تأسيس العلاقة بين مصر والسودان، هو التخلّي عن الاستنساخ الرمزي، وبناء علاقة تقوم على الاعتراف بالتعدد، والاختلاف، والمصالح المشتركة. علاقة لا تُقصي، ولا تُلقّن، بل تُبنى على التبادل المعرفي لا الامتثال، وعلى الندية الثقافية لا التلميذة الرمزية.
وهنا يأتي دور المثقف السوداني الحقيقي: أن يحرّر خطابه من غبار الخضوع، وأن يعيد الاعتبار للذات الثقافية السودانية كذات قادرة على التأويل، لا فقط على الاستهلاك. كما يجب إعادة قراءة مفاهيم الهوية، والأدب، والمجتمع، والتعليم، لا بوصفها نسخًا مستوردة، بل باعتبارها نتاجًا لتاريخ سوداني خاص، جدير بالتأمل والتطوير. كما يأتي دور السياسي، في تعيين مصالح السودان في مصر، مقابل مصالح مصر في السودان، ورسم وتقنين علاقة المصالح المشتركة على ضوئها، وبما يحقق تبادلا المنافع، بدء من التكامل في جميع أوجهه وصولا لوحدة وادي النيل، كأعلى مرتبة في العلاقة الثنائية، بين البلدين. إن إعادة تأسيس العلاقة بين السودان ومصر يتطلب أكثر من مراجعة نوايا، بل إعادة صياغة مؤسساتية وشعبية تبدأ من: إنشاء مجلس مشترك للعلاقات المدنية، وتعديل الاتفاقيات الثنائية بما يحقق توازنًا في المصالح، وإنشاء آليات ثقافية متبادلة تعترف بالهوية السودانية كما هي، لا كما تُراد أن تكون.
Leave a Reply