في منعرج اللُّوَى: تأملات في انقلاب ( 30 يونيو) بين النُصح المؤجَّل والخديعة المتقنة

. طارق عبد اللطيف ابوعكرمة

في ذاكرة الأمم لحظات كان يمكن عندها تفادي الكارثة، لو أن المستبصرين صيغت كلماتهم بمدادٍ من فعل لا من حبر، ولو أن صدى النصيحة وجد آذاناً لا تُصادرها الحسابات القصيرة. وإن في ذاكرة السودان لمفترقًا من هذا النوع، بدأ ظاهريًا بانقلاب (30 يونيو 1989)، لكنه لم يكن غير لحظة إعلان لمسرحية طويلة ومكتملة الإعداد، بدأت منذ المصالحة الوطنية عام (1977)، حين توهّم النظام المايوي أنه يروض الثعلب الإسلامي، بينما كان يُقدّم له مفاتيح الغابة كاملة. لقد انحنت الجبهة الإسلامية، كما تنحني النبتة أمام العاصفة، لكنها قد زرعت جذورها عميقًا داخل مفاصل الدولة والمجتمع، حتى إذا ما هدأ السطح، تمدّدت في الأرض وبنت تحالفاتها بصمت مديد.

منذ تلك اللحظة بدأت استراتيجية بعيدة المدى لتفكيك جسد الدولة من الداخل، تحت شعار الوفاق، وبأدوات التديّن المغشوش. تجلت أولى إشارات هذه الاستراتيجية فيما أشار إليه الأستاذ عثمان إدريس أبوراس (نائب امين السر) من تحرّك الإسلاميين بذكاء نحو استغلال المصالحة، وتموضعهم داخل الأجهزة الحساسة، وتمرير عناصرهم إلى مفاصل المؤسسة العسكرية، لا كمجرد ضباط، بل كخلايا نائمة، تتلقّى التعليمات من مركزٍ خارج الهرم الرسمي للقيادة. وكان العقيد (عمر حسن البشير) هو رأس السهم في هذا التغلغل. وعلى ذِكر المعارضة والتخطيط المتراكم للإطاحة بالنظام المايوي، لا يمكن إغفال الديناميات التي اشتغلت خارج دائرة المؤسسة العسكرية، بل داخل نسيج المجتمع ذاته، حيث انطلقت الشعارات الأولى التي خُطت على جدران كادوقلي في (أبريل 1979) بمثابة بروفة رمزية لبداية تحوّل في الوعي الشعبي، سرعان ما اتسعت إلى حملة وطنية شاملة استمرت منذ (أبريل 1984)، وتحوّلت إلى (جدارية وعي) يومية، تُعيد تعريف الحضور السياسي للمواطن العادي في وجه الاستبداد. وفي هذا المناخ المشحون بالرفض الرمزي والمقاومة الرمزية، جاءت ذكرى استشهاد الشريف حسين الهندي في عام (1982) لتكون منصة حقيقية لميلاد (تجمّع الشعب السوداني)، ذلك الكيان الذي لم يكن مجرد رد فعل عاطفي، بل مشروعًا ميدانيًا له أذرع استراتيجية. فقد انخرط التجمع في صراع صامت للسيطرة على الحركة النقابية، باعتبارها رافعة تاريخية للتغيير، ونجح – بعد تخطيط دقيق – في انتزاع قيادة واحدة من أكبر النقابات وأكثرها تأثيرًا: نقابة عمال السكة الحديد، التي ظلّت دائمًا رمزًا للصلابة العمالية وروح الانحياز للناس.

هذه اللحظات ليست هامشًا في السردية، بل مركزًا مهمًّا لفهم كيف تلاقت إرادة الجماهير مع العمل السياسي المنظّم، لتخلق بيئة مناهِضة للديكتاتورية، كان يمكن أن تُثمر مشروعًا وطنيًا حقيقيًا لو لم يُسرق الحلم بانقلاب مشوّه، أُعدّ في الظل على أنقاض النضال العلني.

في لحظة فارقة من تاريخ السودان، وبينما كانت خيوط الانتفاضة تنسج في صمت داخل المؤسسة العسكرية، لعبت الوشاية دورًا حاسمًا في حرف مسار الأحداث. فقد قام العقيد عمر البشير بإبلاغ قيادته في الجبهة الإسلامية القومية بتحركات ضباط الجيش الذين خططوا لإسقاط نظام نميري من الداخل، لكن طبيعة القطيعة بين الجبهة والنظام المايوي في تلك الفترة – خاصة بعد توتر العلاقة منذ مطلع مارس (1985) – جعلت من المستحيل تمرير المعلومة إلى أجهزة الأمن المايوية عبر القنوات التقليدية. هنا، برز الدور الخفي للعلاقات الخارجية، حين تم تسريب المعلومة إلى الملحق العسكري الأميركي، الذي بدوره أوصلها إلى السلطات الأمنية المايوية، مما أدى إلى إفشال مشروع الانتفاضة العسكرية في مهده، وابعاد رموزه داخل الجيش.

هذه الواقعة ليست مجرد تفصيل عرضي في سردية انهيار النظام المايوي، بل تكشف عن طبيعة العلاقة الضبابية بين الجبهة الإسلامية القومية والولايات المتحدة، وهي علاقة طالما غُلّفت بالخطاب المناهض للإمبريالية، بينما كانت في عمقها تقوم على تبادل خدمات استخباراتية، كما أقر لاحقًا أحد أبرز قادة جهاز أمن الإنقاذ حين قال بوضوح: (كنا وما زلنا عين وأذن الـ C.I. A في شرق ووسط إفريقيا).  وتمّ القضاء على كل الضباط التقدميين المرتبطين بها. ولم يكن ذلك فعل خيانة فردية فحسب، بل كان تفكيكًا مقصودًا لبنية المقاومة من داخلها، وصناعة لبديلٍ (يُصلح ما أفسده التمرد)، ليُصبح البشير نفسه، لاحقًا، في ثوب (المنقذ العسكري). ولم يكن هذا التنسيق مع الملحق العسكري حادثًا معزولًا، بل جزءًا من هندسة إقليمية كانت ترى في بديل إسلامي متعاون بديلًا مقبولًا عن اليسار والقوى الديمقراطية. وقد وفّر النظام المصري غطاءً ناعمًا لهذا البديل، مدفوعًا بهواجس أمنية تخص الجنوب السوداني ومياه النيل، فيما اعتبرت واشنطن الانقلاب جزءًا من ترتيباتها لمواجهة ما سمّته لاحقًا بـ(الإسلام المتطرف) من داخل مؤسسات موالية.

وفي اللحظة الحاسمة، حين كان الرئيس جعفر نميري في زيارة رسمية إلى واشنطن، تلقت القيادة السودانية – عبر القنوات الدبلوماسية الأميركية – رسالة صريحة مفادها: (The game is over). أي أن اللعبة انتهت. وهي العبارة التي تحولت إلى هتاف شعبي مضاد في شوارع الخرطوم: (صايع صايع وشعبك جايع). لقد أدركت الجماهير حينها أن سقوط النظام أصبح حتميًا، وأن الإرادة الشعبية تجاوزت نقطة اللاعودة.

وفي خضم هذا المناخ، تحرك المشير عبد الرحمن سوار الذهب – قائد الجيش آنذاك – وتنصل من قسم الولاء لنميري، مُعلنًا انحيازه للشارع، لكن حزب البعث العربي الاشتراكي لم يُخدَع بهذه الخطوة، فقد رأى فيها إجراءً استباقيًا هدفه احتواء الانتفاضة، لا دعمها. وقد عبّر حزب البعث عن هذا الموقف بوضوح في بيانه الصادر في السادس من أبريل (1985)، الذي حمل عنوانًا قاطعًا: (لا سلطة لغير الشعب، ولا وصاية على الشعب وأحزابه).

ولعل مسيرة حزب البعث في الثامن من أبريل إلى القيادة العامة، والتي طالبت بتسليم السلطة فورًا للشعب، كان ادراكا لمناورات بقايا مايو داخل الجيش للهيمنة على الفترة الانتقالية والذي تجسد بإعلان تكوين المجلس العسكري الانتقالي مساء التاسع من (أبريل 85) الذي تولي في اغسطس مهمة إحالة الضباط غير الموالين لمايو او الإخوان للتقاعد، أولئك الضباط الذين أعلنوا – في اجتماعات رسمية أواخر مارس – أنهم سيزحفون بوحداتهم إلى القيادة العامة إن لم تُنحاز القيادة لموقف الشعب. وفعلاً، وبعد أربعة أشهر فقط من تشكيل المجلس العسكري، صدرت قرارات بإحالة أبطال الانتفاضة العسكرية الي التقاعد في (أغسطس 1985).

وقد قدّم حزب البعث تحليلًا شاملًا لهذا الانقلاب المضاد على الانتفاضة، من خلال الندوة الجماهيرية التي أقيمت في الميدان الغربي لجامعة الخرطوم، والتي خاطبها القيادي أمين سر حزب البعث العربي الاشتراكي الراحل (بدر الدين مدثر)، كاشفًا خفايا تواطؤ بقايا مايو في أجهزة الأمن والمخابرات مع المجلس العسكري. وقد تم توثيق هذه الندوة في كراسة حملت عنوانًا مقتبسًا من هتافات الجماهير الغاضبة في تلك الليلة: (الشعب أقوى والردة مستحيلة).

هكذا بدأت عملية تغيير ممنهجة داخل الجيش، كان جوهرها – كما أشار الأستاذ أبوراس – استئصال كل من له صلة بمشروع الانتفاضة، بالتوازي مع ترميز عناصر الجبهة القومية الاسلاموية وتقديمهم كضباط ذوي (ولاء ديني ووطني). ولتثبيت هذا الخطاب، تم اللجوء إلى تصعيد إعلامي مبرمج ضد الحركة الشعبية لتحرير السودان، لخلق حالة استقطاب تعبوي تتيح إدخال الدين في الجيش من بوابة (معركة المصير). ولعل أحد أبرز تجليات هذا الاستقطاب ما عُرف بـ(مشروع قنطار الذهب)، الذي أُطلق بدعوى دعم القوات المسلحة، لكنه كان في حقيقته حملة شعبوية لتسويق الجبهة القومية الاسلاموية، وإدماجها شعبياً كحامي للدين والوطن، بينما هي تُهندس لنسف الدولة من تحتها.

إن هذه اللحظة التاريخية، بتفاصيلها الدقيقة، تفضح حجم التواطؤ بين الداخل والخارج، وتُبرز كيف فُرغت الانتفاضة من مضمونها الحقيقي، حين تواطأت قوى السلطة مع واجهات المعارضة الشكلية، لإجهاض التغيير الحقيقي. لقد زُرعت الخيانة في جسد الثورة قبل أن ترى النور، واستُبدلت بشعارات مطمئنة تخفي وراءها مشروعًا مضادًا، أُعد له بإتقان منذ المصالحة، وبلغ ذروته في انقلاب يونيو (1989).

وفي سياق هذه الحملة الرمزية، جرى ترميز عمر البشير كقائد ميداني (استعاد ميوم)، بينما كانت زيارات علي عثمان محمد طه تتوالى إلى الوحدات العسكرية في الجنوب، ليس بوصفه مسؤولًا مدنيًا، بل كمُنظّر عقائدي يُعدّ الأرضية العقائدية للضباط الجدد. وبموازاة ذلك، انطلقت تُشن حملة سياسية شعواء على حكومة الانتفاضة، عبر مزايدات جوفاء حول (ثورة المصاحف)، والتنديد بتدهور الأوضاع الاقتصادية، في وقت كانت الجبهة القومية الاسلاموية نفسها تمسك بخيوط اللعبة، وتُنسق – من الخلف – مع عناصر النظام المايوي لتوفير الغطاء السياسي لانقلابها الوشيك.

وحين تم التحوّل من موقع المعارضة إلى بوابة المشاركة في حكومة الوفاق الوطني عام (1988)، كانت اللحظة قد نضجت، فكانت انتفاضة الخبز والسلام في نوفمبر 88التي عبرت فيها الجماهير عن معارضتها للسياسات الاقتصادية والمماطلة في اجازة اتفاق الميرغني /قرنق من قبل ما أطلق عليها مسمي حكومة الوفاق الوطني. جاءت مذكرة الجيش في (نوفمبر 1989) لتُعلن أن المؤسسة العسكرية – المخترقة أصلاً – تتجه نحو (تحمّل المسؤولية)، بذريعة تردي الأوضاع. وما إن حدث الانقلاب حتى جرى تنظيم مشهد مُحكم، أخرجه حسن الترابي بذكاءٍ شيطاني: (اذهب أنت إلى القصر رئيسًا، وأنا إلى السجن حبيسًا). كانت هذه العبارة، كما رآها البعثيون، إعلانًا صارخًا عن ولادة الاستبداد بوجه ملتحٍ، واستنساخ لروح الخديعة باسم الله، وهي ذاتها الخديعة التي تنكّرت لكل من حاول فضحها. كانت الساعات الأولى لانقلاب 30 يونيو كافية للكشف عن جوهر المشروع: إغلاق للصحف، ملاحقة للقيادات النقابية، وتدشين خطاب هجومي على الديمقراطية باسم (المرحلة الانتقالية التصحيحية). وسرعان ما بدأت القوانين الاستثنائية، وتبدلت لغة الدولة من لغة مدنية إلى خطاب تعبوي يبرر الاستبداد بالحديث عن (التمكين).

لم يكن حزب البعث العربي الاشتراكي يومًا بعيدًا عن هذا المشهد، بل كان في صلبه، وقد بادر – قبل وقوع الانقلاب – بنشر خبرٍ دقيق في مجلة (الدستور) اللندنية مفاده: (الجبهة الإسلاموية القومية تُخطط لانقلاب عسكري بقيادة العقيد عمر البشير)، كما أوصل المعلومة إلى مجلس رأس الدولة، ورئاسة الحكومة، وقيادات الأحزاب الكبرى، ولكن كما قال الشاعر: (بذلت لهم نصحي بمنعرج اللُّوى… فلم يستبينوا النُصح إلا ضُحى الغد). لم تُؤخذ التحذيرات على محمل الجد، بل جرى التشكيك في دوافعها، واعتُبر أن حزب البعث إنما يعبّد الطريق لانقلابه هو، عبر ابعاد العناصر المشتبه بها.

لقد حدث الانقلاب، لا لأن أحدًا لم يكن يعرف، بل لأن الذين عرفوا اختاروا ألا يصدّقوا. وهكذا انتقل السودان من عهد سياسي متعثر إلى ليل استبدادي طويل، تقنّع فيه الدين بالسلطة، وتنكّرت فيه المؤسسات لهويتها، وتحوّلت الثورة إلى أداة للتسلط، واختُزلت الدولة في جهاز أمني عقائدي، تموّل الحروب، وتُهجّر العقول، وتُستنزف مواردها باسم (المشروع الحضاري). كان انقلاب يونيو تتويجًا لمرحلة التديّن الاصطناعي، حيث تحوّل الإيمان إلى أداء، والدعوة إلى واجهة، والدين إلى أداة تسويغ للسلطة. لم تكن الدولة الإسلامية المزعومة إلا دولة بوليسية بزيّ ديني، صُمّمت على صورة الزعيم لا على صورة الوطن.

اليوم، بعد مرور 36 عامًا على ذلك المنعرج القاسي، لا تزال البلاد تعاني من تداعيات ذلك الغياب المُريع للبصيرة السياسية. لقد أُكل الثور الأبيض فعلًا، ولم يُبقِ الاستبداد على شيء سوى الخراب. لكن ما يجعل من هذا المقال أكثر من استرجاع للماضي، هو أنه تذكير بأن التاريخ لا يُغفر له من لا يتعلم منه. وما أحوجنا، اليوم، إلى ذاكرة نقدية شجاعة، تُعيد صياغة الأسئلة التي تهرّبت منها النخبة، وتبني مشروعًا جديدًا لا يسمح للثعالب بأن تستعير رداء الوطن مرة أخرى. ولا سبيل لهذا التحرر إلا ببناء جبهة شعبية عريضة للديمقراطية والتغيير، فالجبهة، في بنيتها الجوهرية، هي تعبير عن تحول نوعي في أدوات الفعل السياسي، من ردّات الفعل اللحظية إلى بناء استراتيجية جماعية طويلة الأمد، تستند إلى ثلاثية متكاملة: مقاومة الحرب، إعادة بناء الدولة، واستعادة السيادة على القرار الوطني والموارد.

صدق نائب امين السر حين قال: (التاريخ لا يغفر لمن لم يتعلم منه) مستعيرا قول (الاصمعي): (غفلنا ولم يغفل الدهر عنا. وعظنا ولم نتعظ، فوعظ غيرنا بنا، وقد أدركت الشقاوة من غفل وأدركت السعادة من انتبه، وكفي بالتجربة واعظا).

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.