غياب

إهداء.. إلى من ينتظروننا على الضفة الأخرى.

بقلم: إنصاف الشفيع

#ملف_الهدف_الثقافي

أفاق من نومه على صوت خافت تلفت حوله، زوجته نائمة كطفلة… حوّل عينيه إلى حيث الصوت.. وجد رفيقه ينتظره.. همس.. (ما الذي أخرك كل هذا الوقت؟ انتظرتك كثيرًا.. حتى ظننت أنك لن تأتي). نظر إليه دون أن يجيب ثم مد له يده ليساعده على النهوض من سريره… دهش حين وجد نفسه يستطيع القيام دون مساعدة.. ابتسم رغماً عنه ثم تبع صاحبه.. قبل خروجه من المنزل أعاد النظر إلى زوجته.. وابنيه بالغرفة الخارجية… جميعهم نيام… مسح دموعًا سالت من عينيه وهو يلقي عليهم نظرة أخيرة على الرغم من فرحته بمغادرة المكان… تأكد من إغلاق الباب بعد خروجهما.. ونظر مرة أخرى عبر زجاج النافذة… لم يشعر أحد بخروجه… والوقت ما زال مبكرًا لاستيقاظهم… ضغط رفيقه على يده بحنان وقال بصوت لا يكاد يسمع (من الأفضل أن تأكل شيئاً من الطعام، فرحلتنا طويلة)… هز رأسه بشدة (لا بأس، لقد شربت كوبًا من الحليب قبل أن أخلد للنوم)… سارا مسرعين… كان الهدوء يعم المكان.. هبت نسمات رقيقة تميل للبرودة، تبشر ببزوغ الفجر… بعد أن اجتازا الباب الخارجي… ملأ رئتيه من هواء الفجر فزال ما يشعر به من حزن.

سار ممسكًا بيد رفيقه في صمت تام… لا يدري كم من الوقت ظلا يسيران.. تذكر في تلك اللحظة أنه نسي عصاه التي لا تفارقه… ورغم أنه لم يعد بحاجة إليها، فها هو يسير بدونها بكل نشاط، لكنه أحس بالحنين.. ليس للعصا فحسب ولكن، لابنيه وزوجته ومنزله… وبعد أن سارا لمدة من الزمن، التفت التفاتة أخيرة نحو منزله… بدأ له أنه يرى عددًا غير قليل من رجال ونساء… وخيل إليه أنه يسمع صراخًا ونواحًا رغم بعد المسافة (لا بد أنهم قد اكتشفوا غيابي) تمتم بقلق… لكنه واصل سيره بإصرار.

لا يذكر متى بالتحديد استقلا هذا المركب… ولا من أي منطقة… ما يذكره جيداً أنه أحس حينها بالبرد. فضم يديه حول صدره ومال بجسده متكورًا داخل مقعده بالمركب… أحس برفيقه يضع على ظهره شالًا من الصوف… شده بأطراف أصابعه… وهز رأسه شاكرًا.

ولا يعلم أيضًا كم طالت الرحلة.. لكن مع ارتفاع أشعة شمس ذلك الصباح.. بدأ يتبين من بعيد معالم الضفة الأخرى.. حيث وجهتهما… أو بالأصح وجهته هو.. فرفيقه سيعود أدراجه بعد أداء مهمة إيصاله.. تعلقت عيناه بالضفة الأخرى وهي تقترب… خفق قلبه وهو يرى وجوهًا مألوفة… بدأت سرعة المركب تقل تدريجياً.. حتى توقف تمامًا… تبادل هو ورفيقه نظرات صامتة.. خطا نحو الشاطئ بخطوات مرتجفة.. ثم بأخرى أكثر ثقة حين تبين الوجوه التي تنتظره بشوق بالغ… لوح بيده لرفيقه الذي انطلق عائدًا بالمركب… وأصلح من هيئة جلبابه… ابتسم ابتسامة عريضة ما لبثت أن تحولت إلى ضحكة صافية ثم قهقهة عالية وهو يلقي بجسده بين أحضان مستقبليه.

في الذكرى الثانية لرحيل والدي الحبيب.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.