همسات في الظلام (1-2)

بقلم: قبس شمس الدين بابكر

لانجو، الصين. الساعة 1:47 صباحًا..

#ملف_الهدف_الثقافي

كانت المدينة نائمة، تغطيها طبقة من الضباب الخفيف، وصمت الليل يلف الأزقة الضيقة، إلا من صوت الرياح الباردة التي تعبر بين الأبنية القديمة، تنعكس في أروقة الطوابق المتعددة.

في الطابق السابع من مبنى سكني رمادي اللون، يقف المحقق لين شاو أمام باب شقة مغلقة. تحيط به أضواء الشرطة الحمراء والزرقاء، بينما وجوه رجال الأمن متوترة ومتوخية الحذر.

رفع لين نظراته نحو الباب، يتنفس ببطء ثم طرق بخفة. لا رد. اقترب من الضابط الصغير الذي يحمل هاتف الضحية وقال: “جثة ذكر، ثلاثيني، لا توجد آثار اقتحام، ولا علامات مقاومة.. فقط شيء واحد غير مألوف.”

مد له الضابط الهاتف، فظهر على الشاشة رسالة صوتية أُرسلت قبل ساعة واحدة من العثور على الجثة. جلس لين على كرسي قريب، مد سماعاته إلى أذنيه، وضغط تشغيل المقطع. كان الصوت غريبًا.. ناعمًا كنسمة خفيفة، لكنه مشوه بطريقة عجيبة، وكأن شخصًا يهمس بكلمات غير مفهومة. خلف ذلك كله، كان هناك صوت أجراس خافتة تتكرر بنغمة محددة، تُشبه دقات قلب خافتة لكنها متقطعة.

توقف لين فجأة، وأعاد تشغيل المقطع مرة أخرى، محاولًا التقاط تفاصيل أكثر. “ما هذا؟”.. تمتم لنفسه. نغمة الأجراس تلك كانت مألوفة له، لكنها لم تكن واضحة كفاية ليحدد مصدرها. نظر إلى الجثة التي كانت مستلقية على الأرض، وجهها متجمّد بتعبير غريب، كأن الرجل مات وهو يركز على شيء لا يُرى.

تسلل شعور بالريبة إلى قلب لين، قال بصوت منخفض: “هذه ليست جريمة عادية..”. ثم أضاف وكأنه يخاطب الظلام: “هذا القاتل لا يقتل بالسلاح، يقتل بالصوت.

خلفه، ضوء الشارع ينير بصمت، والرياح تعود لتُعيد همساتها، وكأنها تحمل رسالة ما. فجأة، ارتفع صوت خفيف من جهاز تسجيل قريب، رسالة صوتية جديدة.. ترسل من هوية مجهولة. لين رفع السماعة، وأغلق عينيه ليستمع. الرحلة بدأت للتو..


في صباح اليوم التالي، كانت جامعة لانجو تعج بالحركة المعتادة. في مختبر الصوتيات، جلس تسن نور، الشاب الكفيف، أمام جهاز الكمبيوتر، محاطًا بأجهزة تسجيل وتحليل الأصوات. وصل المحقق لين شاو إليه، يحمل هاتف الضحية مع التسجيل الغامض.

“سمعت هذا؟” قال لين وهو يسلّم تسن الهاتف. ابتسم تسن بهدوء، مد يديه نحو السماعات، ووضعها على أذنيه. بدأ يعيد تشغيل التسجيل مرارًا وتكرارًا، يستمع بانتباه شديد لكل تردد، وكل همسة مخفية بين الأصوات.

“الأجراس هنا ليست مجرد ضوضاء خلفية،” قال تسن بنبرة مركزة، “إنها تردد متكرر بنمط موسيقي. هناك أصوات أخرى أيضًا، لكن خفية جدًا. صوت خربشة ورق، وقع أقدام خافت.. وربما صوت قطار بعيد.”

ارتسم على وجه لين تعبير الدهشة: “كيف ترى كل هذا في صوت واحد؟” ضحك تسن قائلًا: “أنا لا أراه، بل أسمعه، أضع الأصوات تحت المجهر، وأفك رموزها كأنها لغز.”

بدأ يعمل على تحسين التسجيل عبر برامج متقدمة، عكس بعض الترددات، ورفع مستويات الصوت المنخفضة. وبينما كان يفعل ذلك، لاحظ نمطًا غريبًا يتكرر، يبدو وكأنه رسالة مشفرة: “القاتل يستخدم الصوت كأداة، وليس فقط لإرسال رسائل، بل كنوع من التوقيع.. هذا ليس مجرد قتل، هذه سيمفونية.”

نظر إليه لين بدهشة: “سيمفونية؟” رد تسن بابتسامة هادئة: “نعم، سيمفونية قاتلة، وكل ضحية جزء من هذه المقطوعة.” خرج الاثنان من المختبر، وعيناهما تلتقطان خيوطًا جديدة من الغموض التي بدأت تتشابك أكثر فأكثر.

في مكان بعيد، في الظل، ابتسم شخص ما وهو يسمع التسجيل نفسه عبر جهازه الخاص. صوته كان هادئًا.. لكنه كان يحمل نغمة جديدة، نغمة القتل القادمة.

يتبع..

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.