
في ظل تسارع وتيرة التوترات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، يجد الاقتصاد العالمي نفسه أمام نفق مظلم جديد، تُضاف عتمته إلى سلسلة من التحديات المتراكمة: حروب تجارية مفتوحة، اضطراب متكرر في سلاسل الإمداد، وتباطؤ عام في ديناميات النمو، ما يُنذر بتراجع توقعات النمو العالمي من 3.5% إلى نحو 2.5%، مع ما يحمله ذلك من آثار مباشرة على معظم الأنشطة الاقتصادية والإنتاجية في العالم.
جاءت الهجمات الإسرائيلية على المنشآت النفطية الإيرانية كمحفّزٍ كارثي إضافي، إذ أفضت إلى تعطيل ما يُقدّر بثلث الإنتاج النفطي الإيراني، أي نحو 1% من مجمل الاحتياجات العالمية من النفط. لم تتأخر الأسواق في الاستجابة؛ فقد ارتفعت أسعار النفط في الأيام الأولى من الحرب بنسبة 7%، إذ قفز سعر خام برنت من 68.02 دولار للبرميل في 6 يونيو إلى 74.23 دولار في 13 يونيو، بينما سجّل الخام الأميركي (WTI) ارتفاعًا تراوح بين 7.6% و14% ليستقر عند 72.98 دولار للبرميل. هذه المؤشرات لا تعكس فقط حساسية الأسواق، بل هشاشتها البنيوية أمام أي اضطراب في الإمدادات القادمة من هذه المنطقة الحساسة.
غير أن السيناريو الأخطر، والأكثر كلفةً، يظل احتمال إغلاق مضيق هرمز، أحد أعصاب الاقتصاد العالمي، حيث تمرّ عبره يوميًا ما بين 17 إلى 20 مليون برميل من النفط، أي ما يقارب 30% من حركة الشحن البحري النفطي عالميًا، و20% من الاستهلاك العالمي. الطرق البديلة والطاقة الإنتاجية الفائضة لا يمكنها تعويض سوى أربعة ملايين برميل في أحسن الأحوال، ما يعني عجزًا يوميًا يُقدّر بين 10 و15 مليون برميل، وهو ما قد يدفع بأسعار النفط إلى تجاوز سقف 100 دولار للبرميل بسهولة، محدثًا صدمة في العرض لا تُعالج بسهولة، وارتباكًا في الأسواق لا تنفع فيه الأدوات التقليدية.
سينعكس هذا الاضطراب حتمًا على السياسات النقدية للدول، إذ يتوقع أن تقابل موجة التضخم القادمة بتشديد في السياسات النقدية من قبل البنوك المركزية الكبرى، مما يرفع أسعار الفائدة، ويؤثر سلبًا على أسعار الصرف، خاصة في بلدان الشرق الأوسط التي تعتمد على الاستيراد، وتمرّ اقتصاداتها أصلاً بمرحلة من الهشاشة البنيوية.
وفي امتداد لهذه التداعيات، برز أثر الحرب على خطوط التجارة البحرية، حيث أصدرت عدة دول تحذيرات رسمية للسفن التجارية بتجنب الإبحار عبر البحر الأحمر وخليج عدن، بينما دعت شركات إدارة المخاطر السفن إلى اتخاذ تدابير استثنائية، أو حتى تعليق الإبحار في بعض المناطق الحساسة. هذا الارتباك في ممرات التجارة أدى إلى إعادة توجيه العديد من السفن أو تأجيل رحلاتها، ما رفع تكاليف التأمين البحري إلى مستويات غير مسبوقة. فقد ارتفعت رسوم ما يُعرف بـ “أقساط الحرب” من 0.05% إلى 0.07% في مضيق هرمز والبحر الأحمر، لتصل إلى ما بين 1% و2% من قيمة السفينة لكل رحلة في مناطق النزاع. وتشير التقديرات إلى أن الزيادات العامة في أقساط التأمين تبلغ الآن ما لا يقل عن 0.5%، ما يعني إضافة مئات الآلاف – وربما ملايين الدولارات – إلى التكلفة التشغيلية لكل رحلة تجارية.
ولعل الأخطر من الأرقام هو ما تعنيه هذه التطورات من تحوّل استراتيجي في بنية الاقتصاد العالمي: من اقتصاد يتكئ على حرية التبادل وسلاسة الحركة، إلى اقتصاد محكوم بنقاط اختناق أمنية واستراتيجية. وبالنتيجة، فإن تأثيرات الأزمة لن تتوقف عند حدود أسعار النفط أو تكاليف الشحن، بل ستطول أسعار السلع الأساسية، وسلاسل الإمداد الغذائية، وستلقي بظلالها على برامج التنمية في الدول النامية، وعلى استقرار أسواق المال في الدول الصناعية.
وفي ضوء كل ما سبق، فإن استمرار التصعيد بين إيران و(إسرائيل) لا يهدد فقط الاستقرار السياسي للمنطقة، بل ينذر بتحوّل الشرق الأوسط إلى “بؤرة استنزاف اقتصادي مفتوح”، قد يعيد رسم خرائط النفوذ العالمي عبر الاقتصاد لا الحرب فقط. وبالتالي، فإن الدعوة إلى التهدئة واحتواء التصعيد لم تعد ترفًا دبلوماسيًا، بل غدت ضرورة اقتصادية ذات أولوية استراتيجية عالمية، لا بد أن تتصدّر أجندات القوى الكبرى، إذا ما أرادت تجنّب موجة كساد جديدة، قد تكون أشد فتكًا من سابقاتها.
Leave a Reply