
✍️ أ. طارق عبد اللطيف ابوعكرمة
في الأزمنة المتصدعة، حين تتحوّل الجغرافيا إلى ساحة اقتتال، والاقتصاد إلى حقل ألغام، تبرز لحظةٌ نادرة: لحظة الإمكان الكامن في قلب العاصفة. ليس لأن الدمار يحمل بذور النماء بالضرورة، بل لأن صدمات التاريخ، في كثير من الأحيان، تُجبر الأمم على مراجعة ذاتها، وإعادة تعريف أولوياتها، وتحرير خيالها من أسر التبعية والرضا بالقليل. والوطن العربي، في منعطفه الراهن، يقف أمام اختبار من هذا القبيل.
إن الصدمات الاقتصادية التي تعصف اليوم(بالمنطقة) العربية ليست عَرَضًا جانبيًا لصراعات الآخرين؛ بل هي جزء بنيوي من منظومة عالمية مضطربة، تتشابك فيها الحروب الجيوسياسية (كما في أوكرانيا وفلسطين)، مع أزمات سلاسل التوريد، واحتكار الطاقة والقمح، وتقلبات الدولار، وتحديات الأمن الغذائي والمائي. وهي صدمات لا تُهدّد فقط حياة الأفراد في لقمة العيش، بل تهدد الكيان العربي ذاته، ككيان عاجز عن تأمين حد أدنى من الاستقلال الاقتصادي والكرامة التنموية.
لكن المفارقة التي يستدعيها هذا المشهد ليست جديدة: فلطالما وُلدت مشروعات الأمم الكبرى من رحم الحروب. أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية لم تبنِ وحدتها فقط على أنقاض القذائف، بل على مشروع مارشال وتنظيم السوق، وتحديد الأولويات الصناعية والتكنولوجية المشتركة. وكذلك فعلت الولايات المتحدة حين استفادت من الحرب لتثبيت زعامتها الاقتصادية. والسؤال هنا: هل يملك العرب ما يكفي من الوعي والإرادة لتحويل صدمة الحرب إلى لحظة يقظة اقتصادية وقومية؟
أول الدروس هو أنّ الاقتصاد العربي، وإن بدا متشظيًا، يملك عناصر تكامل لو أُحسن استخدامها لشكّلت نواة مشروع استراتيجي حقيقي. فالدول العربية، بما تملك من تنوع في الموارد الطبيعية (النفط، الغاز، الفوسفات، الأراضي الزراعية)، ورأس المال البشري، والموقع الجغرافي، تُعدّ واحدة من أكثر الأقاليم قدرة على إنتاج نموذج تنموي بديل، لو أُدير ضمن رؤية تتجاوز الحدود القُطرية إلى فضاء مشترك. هذا الفضاء المشترك ليس حلمًا قوميًا شاعريًا فحسب، بل ضرورة وجودية في ظل عالم يزداد انقسامًا إلى كتل اقتصادية عملاقة.
لكن ماذا يعني تحويل التحديات إلى فرص؟ وكيف يمكن للفكرة القومية أن تتحول من شعار ثقافي إلى خطة اقتصادية؟
أولًا، ينبغي الاعتراف بأن التبعية الاقتصادية – لا الاحتلال العسكري فقط – هي أعمق وجوه السيطرة. (فالمنطقة) العربية، رغم ثرواتها، ما زالت في مجملها سوقًا للسلع المستوردة، وعمالة مصدّرة، وأموال مهدورة في مضاربات غير منتجة. والخروج من هذا الفخ يبدأ من مشروع إنتاجي عربي يستثمر في الزراعة والصناعة والطاقات المتجددة، لا كمجال اقتصادي فقط، بل كمجال لتحرير القرار السياسي.
ثانيًا، توحيد الجهود العربية في مواجهة الأزمات، كما في ملف الطاقة، ينبغي ألا يقتصر على التنسيق في الأسعار، بل يشمل إنشاء صناديق استثمارية عربية موحدة، وبنوك تنموية سيادية، تدعم مشاريع البنية التحتية والصناعات الإستراتيجية، في الدول الفقيرة نسبيًا بالموارد. فكما أن أوروبا بنت سوقها المشتركة رغم تباين الثروات، يمكن للعرب أن ينشئوا (جسرًا اقتصاديًا) يربط بين رأس المال الخليجي، والأراضي الزراعية في السودان والعراق، والعقول العلمية في مصر وسوريا وتونس، والطاقة في الجزائر وليبيا.
ثالثًا، لا بد من طرح سؤال الاكتفاء الذاتي كمسألة أمن قومي. إن استيراد أكثر من (60%) من الحاجات الغذائية في عالم تهدده المجاعات هو ضرب من الانتحار البطيء. والزراعة ليست ترفًا للمزارعين، بل قضية استراتيجية كبرى. والنجاة من هذه الكارثة تتطلب تحالفًا عربيًا حقيقيًا في الزراعة الحديثة، تحلية المياه، وتوطين التكنولوجيا.
رابعًا، يجب إعادة النظر في دور الجامعة العربية، لا كمؤسسة بيروقراطية للنقاشات، بل كمنصة لتنسيق المصالح الاقتصادية والإستراتيجية. ويمكن تدشين (مجلس اقتصادي عربي للأزمات)، يضم خبراء من مختلف البلدان، يرصد المخاطر ويقترح حلولًا عملية مبنية على قاعدة تكاملية لا تنافسية.
خامسًا، في ظل الأزمات العالمية في سلاسل الإمداد والطاقة، هناك فرصة حقيقية (للمنطقة) العربية لتكون لاعبًا محوريًا في إعادة تشكيل الخريطة العالمية، خاصة في الطاقة النظيفة (الهيدروجين الأخضر)، والنقل البحري، والربط الكهربائي، وهي كلها قطاعات يمكن أن تُعيد للعرب موقعًا تفاوضيًا قويًا.
لكن المشروع القومي الاقتصادي لا يمكن أن ينجح بدون شرطه الثقافي والسياسي: وعي جمعي يرفض التبعية، ونخب تؤمن أن الوحدة ليست تنازلًا عن الخصوصيات، بل تعزيزٌ لها في كيان أكبر. إن الحروب – مهما كانت كارثية – تصنع لحظات صدق نادرة، يظهر فيها من يؤمن فعلاً بأن هذا الوطن العربي ليس جغرافيا مفككة، بل مصير مشترك.
إن السؤال إذًا ليس فقط: كيف نواجه الأزمة؟ بل: كيف نعيد تعريف أنفسنا من خلالها؟ هل نكتفي بردود الفعل، أم نبادر بالفعل؟ هل نظل رهائن لسوق عالمي لا نمتلك فيه من أدوات القوة سوى الموارد الخام، أم نعيد بناء مشروع تنموي من الداخل، يربط الاقتصاد بالكرامة، والسيادة بالتنمية، والهوية بالمعنى؟
في زمن الصدمات، إما أن تنكفئ الأمم على جراحها، أو تتحول جراحها إلى معابر للنهضة. فلنختر أن نكون من الصنف الثاني.
Leave a Reply