من لا يبكي على ضحايا الأمس

بقلم: صفاء الزين_

في زمن تتسارع فيه وتيرة المآسي، لا شيء أخطر من القتل سوى تعوّدنا عليه. وحين يصبح الألم جزءًا من الحياة اليومية، يُختبر ضمير المجتمعات لا في قدرتها على الغضب، بل في استعدادها للصمت. هذه الكلمات ليست مجرد رثاء لحربٍ جديدة أو جريمةٍ مستمرة، بل هي محاولة لفهم ما يجعل العنف ممكنًا، وما يمنح الظلم استمراريته.

الشر لا يُعلن عن نفسه دائمًا بالصراخ، بل يتسلّل في صمت، عبر الأفعال العادية، والكلمات المألوفة، والوجوه التي لا تُثير الشك. يكمن خطره الأكبر في اللحظة التي يتحوّل فيها الألم إلى مشهد يومي، والجريمة إلى إجراء، والقتل إلى “خبر”. حينها، لا يكون الخطر في العنف وحده، بل في القبول الصامت به، في قدرة الناس على العيش بجواره دون أن ينهار فيهم شيء.

في السودان، لطالما روّجنا لصورة مثالية عن أنفسنا كشعب نزيه، مسالم، كريم، لا يرضى بالظلم. نردّدها في المجالس، في الأغاني، في الإعلام، فنطمئن وننام. لكن هذه الصورة تصطدم بمرآة التاريخ؛ ففي بلد نفاخر بكرم ضيافته، قُتل وهُجّر الملايين في جنوب السودان ودارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق. وعلى مدار عقود، لم تتوقف آلات الحرب عن حصد الأرواح، بينما ظلت قطاعات واسعة من المجتمع في الغالب صامتة، كأن المأساة تقع في كوكبٍ آخر.

لم تكن هذه الجرائم لحظات استثناء، بل تراكمًا ممنهجًا لأشكال متعدّدة من العنف: عنف الدولة، وعنف اللغة، بل وحتى عنف اللامبالاة. ما يُفزع في الأمر ليس فقط عدد القتلى، بل الصمت، وقبول المجتمع، ومساهمة قطاعات واسعة صراحة أو ضمنًا في تسويق الجريمة باسم الوطن، أو الأمن، أو القانون. لم يُنتج هذا الواقع خطابًا مضادًا، ولم تتحوّل الفجائع إلى أسئلة وجودية تهز الضمير العام.

ولم يكن الصمت مجرد تقاعس أخلاقي، بل كان فعلًا سياسيًا بامتياز، لأنه وفّر غطاءً للجرائم، ولأنه رسّخ بنية قمعية باسم الدولة والوحدة والسيادة. وكما أشار فرانز فانون، فإن أحد أخطر إرث الاستعمار هو أن تُعاد ممارسة سلطته من داخل المجتمعات نفسها، حيث تكرّر الأنظمة الديكتاتورية فعل المستعمِر، فتسحق الشعوب المستبعدة وتُعيد إنتاج التراتبية ذاتها التي أسسها العنف الاستعماري، فتُمارس الهيمنة هذه المرة بأدوات محلية، وخطاب “وطني”، وتبريرات “سيادية”، لكنها لا تقل قسوة عن أدوات الخارج.

إن التجربة السودانية لا يمكن فهمها فقط من زاوية الصراع على السلطة أو الموارد، بل يجب قراءتها من عمق ثقافي وأخلاقي. لماذا صمتنا؟ ولماذا تواطأنا؟ وكيف أمكن لنا أن نشيح بوجوهنا، كأن من قُتلوا ليسوا منّا؟ هنا تكمن المعضلة الأخلاقية التي لا تُحلّ بالتحوّلات السياسية وحدها، بل تتطلب مساءلة جذرية لذاكرتنا، لرواياتنا، ولمفاهيمنا عن الوطن والكرامة.

حين انفصل الجنوب، ظنّ كثيرون أن الحرب قد انتهت، وأن البلاد استعادت “وحدتها”. لم يدركوا أن ما كان مشتعلًا لم يكن مجرد نزاع جغرافي، بل نظامًا كاملًا يقوم على استبعاد فئات بعينها من تعريف “المواطنة”، وحرمانها من الحق في الحياة، والتاريخ، والصوت. لذلك، لم يكن مفاجئًا أن تستمر النار في الاشتعال، وأن تنتقل الكارثة من أطراف البلاد إلى أعماقها، لأن البنية نفسها لم تتغيّر.

في المقابل، حين تعرّض المهاجرون في بعض الدول الغربية للاضطهاد، خرجت مجتمعات كاملة للدفاع عنهم، فتحت المدن أبوابها، قدّمت الكنائس الحماية، وربط المحامون في المطارات، وأُطلقت حملات تضامن كبرى. لم تكن تلك مجتمعات مثالية، لكنها امتلكت حسًا أخلاقيًا يجعل الصمت خيانة. والفرق هنا لا يُفسَّر فقط ببنية النظام السياسي، بل أيضًا بدرجة وعي الناس بأن العدالة لا تتجزأ.

الذي حدث عندنا لم يكن جريمة لحظة، بل جريمة ذاكرة؛ جريمة رواها الصمت، وثبّتها النسيان، ومرّرتها اللغة. لم يكن الجلاد وحده، بل كان من سكت، ومن تجاهل، ومن برّر، ومن أغلق النوافذ في وجه الحقيقة. وهذا ما يجعل أي حديث عن التحوّل الديمقراطي، دون اعتراف، حديثًا ناقصًا، لأن الديمقراطية لا تُختبر فقط في المؤسسات، بل في القدرة على الإنصات لما تم إنكاره، والنظر في عين المأساة دون أن نرتدّ عنها.

أخيرًا: إن العدالة في هذا السياق ليست مطلبًا قانونيًا فحسب، بل مشروعًا ثقافيًا وأخلاقيًا يُعيد تعريف من نحن، وماذا نريد أن نكون. ولا يمكن لهذا المشروع أن يبدأ قبل أن نقول لأنفسنا، لقد صمتنا طويلًا، والآن آن أوان الاعتراف.

من لا يبكي على ضحايا الأمس، سيصفّق لجلّادي الغد.

-صفاء الزين – كاتبة سودانية وقيادية في الحزب الاتحادي الموحد، مهتمة بالفكر السياسي، والعدالة، وتحليل الذاكرة الجمعية في مجتمعات ما بعد النزاع.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.