الوطن حين يهاجر في القلب

استغرقتُ سنوات لأُدرك أن “الوطن” ليس جغرافيا ثابتة أو علما يُرفع فوق سارية بل قد يكون ظلا من شجرة أو مقهىً عابر أو حضنا دافئا نُسيت فيه مرارة المنفى أو حتى لحظة هدوءٍ لا يعلوها أزيز رصاص

حين يُسلب الإنسان من وطنه لا يُنتزع فقط من بيته وأهله بل يُخلع من ذاكرته التي تشكل يومياته ويبدأ السؤال المؤلم هل ما زال لي وطن؟ وهل يمكن للإنسان أن يخلق وطناً جديدا في مدينة غريبة أو تحت سماء أخرى؟

في زمن الحرب يتحول مفهوم الوطن إلى شيء داخلي يصبح السلام النفسي بديلا عن الحدود والكرامة اليومية بديلا عن أوراق الجنسية والأمان هو العلم الذي نرفعه كل صباح كي نقول نحن على قيد الحياة.

الكثير من السودانيين اليوم يعيشون هذا الشتات الجارح هجّرتهم الحرب وشرّدتهم النكبات ونفاهم التغوّل السياسي واختطف المتأسلمون وطنهم ثلاثين عاما وما زالوا يوقدون نيران الحرب كلما لاحت بارقة أمل ويقايضون حياة الناس بالسلطة وأمن البلاد بالمكاسب الفئوية.
لكنهم رغم كل ذلك يحاولون بناء وطن من فتات الذاكرة من صداقات جديدة من لهجةٍ تبدأ بالتعثر ثم تتأقلم ومن صور أطفالهم يلعبون في حدائق لم تكن لهم يوما

ربما الوطن ليس مكانا نولد فيه بل مكانا نُخلق فيه من جديد.

قد لا نملك ترف العودة الآن وقد لا يعود الوطن الذي عرفناه يوما كما كان، لكننا نملك القدرة على الاحتفاظ به فينا لا كجغرافيا بل كقيمة كذكرى كأمل لا يُقتل مهما طالت المنافي.

وفي النهاية لعل أصدق تعريف للوطن هو:
أن يكون لك مكانٌ تحت هذه السماء… لا تحتاج فيه أن تشرح من أنت ولا أن تتوسل حقك في السلام.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.