
بقلم: د. أحمد الليثي
#ملف_الهدف_الثقافي
في الأحياء الشعبية، حيث تنمو العلاقات على الملح والماء، كان يُفترض أن تكون الجيرة حصنًا، والجار سترًا، والشرطة ملاذًا. لكن مأساة عبدالسلام، المواطن البسيط، الذي قضى أيامه الأخيرة بين ضربٍ وتجويعٍ وظلم، تكشف جرحًا أعمق من مجرد جريمة: إنها فضيحة أخلاقية تُعرّي واقعنا الاجتماعي، وتضعنا جميعًا أمام مرآة قاسية.
الفقير الذي لم يجد أحدًا في صفه
عبدالسلام لم يكن سياسيًا ولا صاحب نفوذ. لم يمت في معركة، ولم يُقتل في مظاهرة. بل مات في زنزانة ضيقة، بعد أن نُكّل به أمام أعين الجيران، وقُدِّم قربانًا لثقافة “الخوف”، و”التواطؤ بالصمت”، و”القانون في يد الأقوى”. فالرجل، الذي قضى حياته يكافح ليؤجر جزءًا من بيته ليطعم أطفاله، وُوجه بكل ما يمكن أن تنتجه المجتمعات المنهارة أخلاقيًا: كيد، كذب، وشهوة للاستقواء على الضعيف.
الجار، الذي لم يطرق الباب
حين جاء المعتدون إلى منزله وجرّوه ركلًا وصفعًا، لم يتصدَ أحد. حتى الجيران، الذين يعرفونه بـ”الزول الدرويش” — رمز البساطة والطيبة — وقفوا مذهولين. الخوف كان أبلغ من النخوة، والدهشة أقوى من الشهامة. ولعل هذا هو أكثر ما يوجع في القصة: أن يُترك الإنسان لمصيره دون أن يُفتح له باب الجوار، ولا يُرفع له صوت احتجاج.
القيم، التي سقطت واحدة تلو الأخرى
القضية لم تكن فقط في تعذيب عبدالسلام داخل قسم الشرطة، بل في كل “قيمة” سقطت في طريق موته:
- سقطت قيمة العدالة، حين تحوّل قسم الشرطة إلى غرفة تعذيب، وصار القانون وسيلة للابتزاز.
- سقطت قيمة الرحمة، حين تُرك جسده للنمل في الزنزانة.
- سقطت الرجولة، حين استقوى رجالٌ مدججون بالسلاح على رجلٍ أعزل، لا يملك سوى صوته.
- وسقط الضمير المجتمعي، حين لم نرَ احتجاجًا، أو مظاهرة، أو حملة تضامن تُعيد الاعتبار للعدالة.
حين تُصبح “السترة” سببًا للموت
عبدالسلام لم يطمع في جاه أو ثروة. كل حلمه كان ستر بيته وأطفاله. لم يطرد المستأجرة إلا بعد عجزه عن تدبّر القوت. لكن الفقر في هذا الزمان صار تهمة، والضعف عارًا. حتى البيت، الذي بناه ليأويه، تحوّل إلى مطمع، وجعله هدفًا للهجوم. فأيُّ مجتمع هذا، الذي يُعاقب الطيب، ويكافئ الكيد؟ وأيّ وجدان هذا، الذي لا يهتز حين تُستخدم طفلة في بلاغ كيدي لقتل رجل أعزل؟
الطفلة… والمستقبل، الذي يُربى على الكذب
هناك جانب آخر أشدّ خطورة: الطفلة، التي حُمّلت — ظلمًا — تهمة الاغتصاب، تم استغلال براءتها في صراع قذر بين الكبار. هكذا يُزرع الكذب في النشء، وهكذا يُربّى الأطفال على أن الحقيقة لا تهم، وأن تدمير حياة إنسان قد يكون ثمنًا مقبولًا للحصول على بيت أو مال. أي مجتمع يُمكن أن يُبنى على هذا النوع من التنشئة؟ وأي مستقبل ينتظر أطفالنا حين تصبح البراءة أداة، ويُعلَّم الصغار أن السلطة أهم من الحقيقة؟
من الذي قتل عبدالسلام؟
لم يقتله السلاح وحده، بل قتله المجتمع حين صمت. قتلته ثقافة القهر، وتطبيع الظلم، وتحلل القيم. قتله ذلك التحوّل الخطير، الذي أصاب المجتمع السوداني: من مجتمع “السُترة” و”الضرا”، إلى مجتمع البلطجة والسكوت على الباطل. قتله أولئك، الذين رأوا ما جرى ولم يتكلموا، الذين عرفوا المؤامرة ولم يرفضوها، الذين قالوا لأنفسهم: “ما شغلتنا”.
هل ما زال فينا إنسان؟
مأساة عبدالسلام ليست قصة رجل واحد، بل قصة وطنٍ يُذبح من خاصرته، حين تُصبح القيم سلعة، والكرامة رخيصة، والإنسان رقمًا في سجلات الموت. السؤال الآن ليس: من القاتل؟ بل: من تبقّى ليدافع عن المظلوم حين يسقط في فخ القهر؟ إننا بحاجة إلى صحوة ضمير، لا إلى بيانات تنديد. نحتاج أن نعيد تعريف الجيرة، والنخوة، والعدالة، لا أن نُقنع أنفسنا أن “الناس بقت كده”. فعبدالسلام لم يمت وحده… لقد مات شيء فينا جميعًا.
Leave a Reply