
تقرير: أمجد السيد
في مشهد يعكس تراجيديا السياسة السودانية الحديثة، جاءت كلمة وكيل وزارة الخارجية إدريس إسماعيل فرج الله خلال اجتماع وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي لتضيف حلقة جديدة في سلسلة المفارقات الحادة التي تطبع خطاب السلطة القائمة في بورتسودان.
الوكيل خاطب الدول الإسلامية بلغة مفعمة بالشعور بالكرامة الوطنية والسيادة، رافضًا ما سماه “الدعم الخارجي للمتمردين”، في إشارة إلى قوات الدعم السريع. وفي اللحظة ذاتها، لم يتردد في مناشدة “الدول الصديقة والشقيقة” تقديم مساعدات طبية عاجلة، ودعم جهود إعادة إعمار ما دمرته الحرب التي لا تزال تشتعل برعاية حكومته نفسها.
خطاب مزدوج يفتقر للتماسك
هذا الخطاب الذي جمع بين المطالبة بالإغاثة ورفض أي تدخل في الشأن الداخلي، لم يمر دون أن يثير موجة واسعة من النقد والدهشة. ففي الوقت الذي تتهم فيه الحكومة جهات خارجية بدعم خصومها، تتوجه بالنداء ذاته إلى هذه الجهات طالبة منها أن تساهم في لملمة شظايا ما تمزّق تحت قصف طائراتها ومصفحاتها.
ويطرح مراقبون أسئلة جوهرية: كيف يمكن لنظام سياسي أن يتمسك بخطاب السيادة حين يُسأل عن أسباب الحرب، ثم يتخلى عن هذا المبدأ حين يتوسل المساعدات؟ ألا تُعدّ طلبات الدعم شكلًا من أشكال التدخل ذاته الذي ترفضه؟ وأي منطق سياسي أو أخلاقي يسمح بالجمع بين هذين الوجهين في خطاب واحد؟
الدولة التي تُحطم وتطلب الترميم
ما يفاقم من عمق المفارقة، أن الحكومة التي تطالب المجتمع الدولي اليوم بالمساهمة في الإعمار، هي ذاتها التي ما تزال ترفض – بصورة قاطعة – الانخراط في أي عملية سياسية جادة لوقف الحرب.
كما أنها مستمرة في فرض القبضة الأمنية، وإغلاق منافذ العمل الإنساني الفعّال، وتحويل المساعدات إلى ورقة ضغط سياسية، دون أن تقدم أي التزام حقيقي تجاه المواطنين الذين يُطلب لأجلهم الدعم.
ويقول أحد الدبلوماسيين السابقين لـ”الهدف”: “لا يمكن لأي دولة أن تحظى باحترام المجتمع الدولي وهي تنسف أدوات الحل من جهة، وتُحمّله تكاليف الفوضى التي تخلقها من جهة أخرى. ما تفعله الخارجية السودانية هو تسييلٌ لمفهوم السيادة، وتحويله إلى لافتة انتقائية تُرفع حين تقترب الوساطة، وتُطوى حين يحين وقت المعونات”.
“سيادة مبتورة”.. وغياب للالتزام السياسي
في ظل هذه المفارقات، يظهر مفهوم “السيادة” في الخطاب الرسمي مبتورًا؛ فهو لا يستند إلى احترام إرادة الشعب أو حماية المدنيين، بل يُستخدم كأداة لعرقلة أي جهد دولي يدعو إلى وقف إطلاق النار أو المحاسبة أو استئناف العملية السياسية.
وحتى الدعوة إلى “إعادة الإعمار”، بحسب خبراء تحدثوا لـ”الهدف”، تبدو قفزًا على الواقع، ومحاولة لتدوير المسؤولية، وخلق انطباع زائف بأن الدولة تمضي في مسار التعافي، في حين أن الحرب ما تزال تأكل أطراف البلاد، وملايين السودانيين يرزحون تحت الحصار والجوع والمرض والنزوح.
ويضيف خبير في القانون الدولي الإنساني:
“لا يمكن البدء بأي عملية إعادة إعمار دون وقف دائم وشامل لإطلاق النار، ومناخ آمن يسمح بعودة مؤسسات الدولة المدنية، وبدء مسار سلام جاد، وإلا فإن أي دعم سيُهدر أو يُوظف في تمويل آلة الحرب ذاتها”.
ما بين “الكرامة” و”التسول السياسي”
يؤكد محللون أن الخطاب الرسمي اليوم يعاني من انقسام داخلي حاد بين لغة التحدي التي تحاول الظهور بمظهر القوة، ولغة الاستجداء التي تطلب الإنقاذ. وهو ما يجعل صورة الدولة في المحافل الدولية مهزوزة وغير مقنعة، ويضعف من قدرتها على بناء تحالفات فاعلة أو جذب الدعم المستدام.
ووفق مصادر سياسية في بورتسودان، فإن الضغوط الدولية تتزايد لربط أي دعم إنساني مستقبلي بخطوات فعلية لوقف الحرب، واحترام القانون الدولي، وتمكين المنظمات الإنسانية المستقلة من أداء عملها دون عوائق. بينما تصر السلطة القائمة على الفصل بين هذين المسارين، وكأنها تخوض حربًا مقدسة لا تقبل المساءلة، لكنها حرب بحاجة إلى التمويل والدواء من خصومها المفترضين.
نحو سلام حقيقي لا مجاز لغوي
في نهاية المطاف، لا يزال ملايين السودانيين ينتظرون حلاً يخرجهم من أتون الجحيم. لا يكفي أن تطلب الحكومة من العالم “أن يرحم”، بينما تصمّ آذانها عن أصوات الداخل المطالبة بوقف الحرب، وتغلق أبواب التفاوض، وتُخضع المساعدات الإنسانية لشروط الولاء السياسي والعسكري.
الطريق إلى السلام يبدأ من الداخل، من وقف القتال، ومن الاعتراف بأن الدولة التي تمعن في صناعة المأساة لا يمكن أن تطلب من الآخرين أن يمولوها. السيادة لا تُقاس برفض الوساطات، بل بقبول الحلول الشجاعة. ولا يُبنى السودان بالخطابات المتناقضة، بل بخطوة واحدة جادة: إيقاف الحرب.
Leave a Reply