ذكريات من قرية دونتاي.. الطريق إلى خور قبور 

بقلم: د. معتصم دونتاي

يحيط بقرية دونتاي النيل الأزرق من ثلاث جهات. سكانها يشربون الماء كل بمزاجه حسب مورد الماء الذي يليه. إنها قرية وهبها الله سحرًا عجيبًا. سكان الحي الجنوبي من القرية هم أكثر قربا من مورد خور قبور ذلك المكان الذي يجمع بين سحر الطبيعة الخلابة والخوف والرهبة. الطريق إليه ملئ بالخيران الصغيرة لكنها ليست بعيدة. تحيطها بعض الشجيرات الصغيرة من الكتر واللعوت والطندب والهجليج.

تصدر شجيرات الكتر صوتا مخيفا عند منتصف النهار على الرغم من أصوات العصافير التي تفضل المقيل عليها في النهار الحار وتضع بيضها على هذه الأشجار. الأرانب تفضلها أيضا في المسكن ويقال أن الجن الكافر يرتاح أيضا في مثل هذه الأمكنة. هناك أصوات أخرى مختلفة للحشرات الصغيرة.

الخيران هنا لا تأخذ شكلا منتظما بل تحفها مرتفعات وتعلوها بعض الحشائش. تشبه الهضبة تعلو وتصغر. شجرة الحراز الكبيرة هي الأبرز في المكان ربما لشموخها. بعض الأشجار تتكئ أيضا على نهاية خور كبير مخيف متجه للنهر. أصوات الطيور المختلفة “ابتكو” “جلكجك” “قدوم أحمر” “ود أبرق” “أبو الدخان” “والطائر الساحر حمد أبسيفين” تشكل كلها أوركسترا موسيقية كاملة. طير البوم صاحب الوجه الجميل والصوت المخيف الذي يتشائم به أهلنا يكمل الجمال بصوت أقرب للبيز جتار.

على ضفاف النهر المرتفع مجموعة من قبور متناثرة هنا وهناك هي لرجال ونساء. وقد سمي خور قبور لوجود هذه المقابر عليه. هذه القبور لغرقى في القرى المجاورة. يقول أجدادنا إن جثمان الغريق يقف هنا لساعات بحثا عن الستر ونحن بنقوم بواجب الدفن. إنها جثامين لشباب مغامرين مع النهر الجميل الذي سرعان ما يتنكر للعشرة والولف بابتلاع هؤلاء الشباب الذين يحبونه. كلما نظرت إلى هذه القبور أرى شبح وجوه عليها ابتسامة لا أدري سرها. هذا المورد لا يحبه أهلنا كثيرا ويخافون منه.

صورة الفتاة الجميلة المعلقة على فروع الشجر الذي يتكئ على النهر كأنما مد لها حضنه ليحمي جسدها الجميل من الأمواج القاسية مشهد مخيف. تلبس في يدها بعض أساور البلاستيك المنقوشة وسلاسل تتدلى من على رقبتها لا أدري لماذا تبتسم وهي ميتة.

في ناحية النهر الغربية صخور جميلة تأخذ مساحة داخل النهر تتلاطم الأمواج حولها تشبه ساحة الاستراحة في العهود الملكية القديمة. يجلس ذلك الشاب العبقري طالب كلية الهندسة بجامعة الخرطوم بعد أن تركها في الفصل الثالث بهدوء. يرمي بعض الحجارة في النهر ويهمهم ببعض الكلمات الإنجليزية ومصطلحات الرياضيات ويلعن ويسب كل شيء الإنسان الحجر وحتى العقيدة. يقولون عنه مجنون. اقتربت منه وهو رجل ودود وسلمت عليه إزيك يا بابكر. رد باقتضاب أهلا. عندي سؤال. قال لي يا ولد أنا ما فاضي ليك. سألته ليه خليت الجامعة. رد بحزم لأني برسم في خريطة للكون والناس الوهم ديل ما بفهمو وقالو علي مجنون جن يركبكم كلكم. وصمت.

في الناحية البعيدة بين الأشجار الكثيفة المتدلية على النهر والقيف العالي الذي تتناثر منه بعض القطع هبوطا ناحية النهر في كل فترة يهاب الناس هذا المكان. يجلس عنده رجل كث اللحية والشعر لا يطيق الحديث الكثير مع الناس يسمى الشريف. يقال إنه من أولياء الله الصالحين شوهد أكثر من مرة وهو يزين لحيته بالنار دون أن يصاب بأذى. دائما يهمم ببعض المدائح النبوية بصوت خافت وتطريب عالي. هنالك أيضا يجلس راعي الأغنام بالقرب من أغنامه التي تشرب الماء ممسكا بربابته المزينة بالنقوش والسلاسل يغني بانتشاء عالي اسمك زينوبة واسم زينوبة في البنات معدوم وما بسيب حبك حتى القيامة تقوم أحييي.

في منتصف النهار يبدو هذا المكان مخيف جدا. تسمع أصواتا غير مفهومة. الرمال على السطح العالي من النهر تلمع كحبات الماس مع الشمس. البرنته ورل الماء والثعابين تنزل إلى الماء في هذا الوقت تحديدا. يقال أن الجن يأتي للمقيل هنا وهو لا يحب أن يزعجه أحد. الكل يخاف النهر في منتصف النهار. أنا وأصدقائي أنور وأبو القاسم تسللنا ذات مرة منتصف النهار لنشاهد الجن في كبريائه ومقيله. اختفينا بين الأشجار في انتظار قدوم الجن. هدوء صوت الطيور والضفادع وفحيح الأفاعي كأنها نداءات الاحتفال بقدوم شخص مهم. الحق وقتها حدث شيء غريب. طاقة خفية غير مفهومة تتلبسنا. تشعر بأن شعر جسمك كأنما اقترب من بعضه. لكزني صديقي أنور وقال لي اقرأ سورة الكرسي. نط أبو القاسم يا زول لو قريتا الجن ما يجي ونحن هنا حارصينه عشان يجي. أسكت بس. فجأة فزعنا على صوت عال إنتو مجانين يا أولاد بتعملو في شنو هنا. نحن بصوت واحد منتظرين نشوف الجن. رد بغضب الجن الكلكي ديك الليلة البحر دا ما شال الأخوان محمد والسر أحسن أولادنا. إنتو أولاد مجانين. وهجم علينا عمنا إدريس ود كابو بالسوط وهربنا.

وبرغم الخوف المحيط بهذا المكان لكن الحقيقة إنه ساحر الجمال لدرجة لا توصف.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.