
بقلم: طارق عبد اللطيف أبو عكرمة
لقد كشفت الأحداث الجارية في غزة عن حقيقة الصراع العربي ـ “الإسرائيلي” من جديد، لا كصراع حدود أو أراضٍ، بل كصراع وجودي مرتبط بالهوية والكرامة والسيادة والعدالة، إن عدوان “الاحتلال” المستمر على الشعب الفلسطيني منذ أكتوبر “2023م”، والذي بلغ ذروته بجرائم إبادة وتطهير عرقي موثّقة بالصوت والصورة، قد أعاد ترتيب أولويات الضمير العالمي، وحرّك من جديد مياهاً راكدة في الفكر العربي والعالمي، وأحيا سؤالًا قديمًا عن دور النخب والمجتمعات والدول في نصرة فلسطين، لا بالشعارات بل بالفعل والموقف.
منذ اندلاع العدوان الأخير على الشعب، بدا أن العالم قد تجاوز فقط حدود الصمت، إلى مرحلة أبعد، تلك التي يتماهى فيها المراقب مع الجريمة، لا عبر المشاركة الفعلية بالقتل، بل من خلال تبريره، أو على الأقل تحييده، وكأن ثمة قتيلًا بلا قاتل، أكثر من”55” ألف شهيد كل رقم منهم كان يحمل اسماً، وحلماً، ومفتاحاً كان في جيب أحدهم، ودفتر رسومات بين أوراق آخر. “127” ألف مصاب، عشرات الآلاف من البيوت المهدّمة، والمستشفيات المدمّرة، والمدارس المنكوبة، وكل هذا في أقل من عام، خلال “24” ساعة فقط، يُسجّل “123” شهيدًا جديدًا، و”474″ جريحًا، وكأن غزة ليست مدينة، بل محرقة مستمرة في بث مباشر.
تجاوز عدد الشهداء “50” ألفًا وفقًا لتقارير منظمات إنسانية دولية، فيما لا يزال آلاف المدنيين في عداد المفقودين تحت الركام، وسط دمار طال البنية التحتية والمرافق التعليمية والصحية والثقافية، غير أن الأكثر فداحةً من هذه الأرقام، هو العجز الأخلاقي الممنهج الذي انحدرت إليه البنية السياسية والإعلامية الغربية، وبعض الأنظمة العربية، والتي لم تعد ترى في هذه المأساة جرحًا إنسانيًا، بل مادة تفاوضية أو ملفًا يُستثمر مرحليًا.
ما يحدث في فلسطين لا يمكن اختزاله في مواجهة عسكرية بين طرفين متكافئين، بل هو إعادة إنتاج لاستعمار عرقي مُمأسس، يستند إلى سردية نفي الآخر، ومحو وجوده الرمزي والفيزيائي، فالقضية ليست فقط احتلالًا جغرافيًا، بل عدواناً على الذاكرة، على اللغة، على الهوية، على التاريخ الذي تحاول سلطات الاحتلال إعادة كتابته بالحبر نفسه الذي يُغمس في الدم، ما يمارسه الكيان “الإسرائيلي” المحتل من قصف ممنهج للجامعات، وللمتاحف، وللبيوت التي تحفظ ذاكرة الأجيال، ليس عبثًا عسكريًا، بل فعلًا مقصودًا لإلغاء الإنسان العربي الفلسطيني بوصفه شاهدًا حضاريًا، ومشروعًا ثقافيًا، وسردية مقاومة.
هذا المشهد الدموي يعيد إلى الأذهان ما وصفه الفيلسوف “فالتر بنيامين” حين قال إن “كل وثيقة من الحضارة هي في الوقت ذاته وثيقة من الهمجية”، إذ يُمارس القتل في فلسطين باسم الحداثة، عبر طائرات ذكية، وخوارزميات تستهدف البشر كما تستهدف المواقع، وحيث يصبح الإنسان رقمًا يُمسح من قاعدة بيانات لا من الحياة فقط، لقد أصبحت أدوات القتل امتدادًا لمنطق ما بعد الحداثة الذي فكك القيم الإنسانية، وأعاد ترتيبها وفق أولويات القوة، من هنا، فإن السكوت عن هذه الإبادة ليس حيادًا، بل اصطفاف مع منطق الإبادة ذاته، حتى وإن تم ذلك من وراء أقنعة الليبرالية أو الواقعية السياسية.
الضمير العالمي، رغم انفجاره في شكل مظاهرات عارمة شهدتها عواصم الغرب، ظل عاجزًا عن كسر المعادلة الدولية التي تحوّلت فيها الضحية إلى متّهم، والمقاوم إلى إرهابي، وحتى حين خرجت الجامعات الأمريكية لتحتضن حركة طلابية غير مسبوقة في تضامنها مع فلسطين، سُحقت هذه الحركات بالقمع الأمني والإعلامي، وكأن حرية التعبير لا تصلح إلا إذا كانت متطابقة مع السردية الصهيو ـ نية. هذه اللحظة تكشف عمق العطب الأخلاقي في المنظومة الليبرالية الغربية، التي طالما قدّمت نفسها بوصفها حاملة لقيم الديمقراطية، في حين لم تتردد في قمع أصوات طلابها وأكاديميّيها حينما عبّروا عن أبسط أشكال التضامن مع المدنيين الأبرياء في فلسطين.
وفي هذا السياق، فإن موقف حزب البعث العربي الاشتراكي من القضية الفلسطينية لا يمكن النظر إليها كحالة أيديولوجية منعزلة، بل كجزء من تصور شامل للعروبة بوصفها مشروعًا حضاريًا مقاومًا للهيمنة والاحتلال، لقد شكّلت فلسطين، في أدبيات البعث، جوهر الصراع من أجل وحدة الأمة ونهضتها، إذ اعتبرها الأستاذ ميشيل عفلق “مقياس الرجولة والانتماء الحضاري”، لا لأنها فقط أرض مغتصبة، بل لأنها مرآة الوعي العربي وامتحانه النهائي، فلسطين بالنسبة للبعث هي مِفصل المصير، وفيها يتجلى البعد الإنساني للصراع، كما يتجلى المفهوم العميق للحرية، ولهذا فإن كل تفريط بفلسطين هو تفريط بالعروبة ذاتها، وتفكيك لهويتها التاريخية.
في عام “1974م”، أصدرت القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي بياناً أكدت فيه: “وجود الكيان الصهيو ـ ني في قلب الوطن العربي ليس حادثًا تاريخيًا عابرًا، بل هو نتيجة استراتيجية لمشروع استعماري يسعى إلى إبقاء الأمة العربية في حالة من الانقسام والضعف، عبر زرع كيان عدواني في خاصرتها، ومن هنا، فإن تحرير فلسطين لا يمكن أن يكون معزولاً عن مهمة التحرر العربي الشامل”، وقد ظل القادة البعثيون يؤكدون أن فلسطين ليست عبئًا، بل معيارًا، وأن من يتخاذل عنها يُثبت خروجه من دائرة المشروع القومي العربي، وفي هذا السياق، قال الأستاذ ميشيل عفلق: “في فلسطين يُختبر صدق الشعارات القومية، وفي دعم مقاومتها يتجلى منطق النهضة أو منطق التبعية”.
وعليه، فإن فلسطين اليوم لا تمثل في فكر البعث مجرد ساحة للصراع، بل مرآة لواقع الأمة العربية وحالتها التاريخية، فبينما تُحاصر فلسطين من الخارج وتُخذل من الداخل، يتجدد السؤال البعثي الجوهري: كيف يمكن لأمة تدّعي الانتماء لفلسطين أن تصمت على موتها؟ وكيف يمكن لمشروع نهضوي عربي أن ينجو إذا ماتت فيه فلسطين؟.
لكن المأساة لا تنحصر في الاحتلال وحده، بل تتوسع نحو الداخل العربي، بعد ثلاث دول عربية أبرمت اتفاقات تطبيعيه مع الكيان المحتل بين “2020م – 2023م” شملت “17” مشروعًا اقتصاديًا مشتركًا، حيث تحوّلت بعض الأنظمة إلى آليات تطبيع ناعم، تُجرّم كل من يتضامن مع فلسطين، وتُراقب الخطاب الأكاديمي والإعلامي كي لا يتجاوز سقف “الحياد”، وكأن الحياد فضيلة حين يُذبح شعبٌ بكامله، في بعض الجامعات العربية، يُفصل الطلبة بسبب رفعهم علم فلسطين، وتُمنع الفعاليات الثقافية التي تتناول القضية، في تماهٍ تام مع ما يفعله الاحتلال من محو وإقصاء. هذه الأنظمة لا تقمع فقط المواقف، بل تُعيد إنتاج الاحتلال داخل بنية الوعي العربي، عبر بثّ خطاب انهزامي يُشكك بالحق الفلسطيني، ويُعوّم المفاهيم تحت مسميات “الواقعية” أو “التوازنات السياسية”، فالأرقام تكشف التناقض، حيث أن: “92 %” من الجماهير بالامة العربية يؤيدون فلسطين “استطلاع العربي الجديد 2023م”، و”47″ حالة منع لمظاهرات في”8” دول عربية “تقرير هيومن رايتس ووتش”، وأن “1200” حساب عربي محظور على منصات التواصل “حملة #حظر_التضامن”.
من هنا، فإن واجب النخبة ليس فقط التنديد، بل تفكيك هذه البنية العميقة من العدمية السياسية التي تسود عالمنا العربي، حيث تُفرغ القيم من مضامينها، وتُختزل المواقف في بيانات خجولة أو صمت مُريب. الكارثة ليست فقط في السلاح الذي يقتل، بل في الكلمة التي تسكت، وفي القلم الذي يُبرر، وفي المنابر التي تُطبع مع الجريمة. فحين يُستبدل المنطق الأخلاقي بمنطق المصلحة، تفقد الأمة العربية بوصلتها، وتغرق في عتمة المفاهيم.
وعليه، فإن فلسطين ليست فقط قضية سياسية أو عسكرية، بل هي اختبار وجودي لحقيقة العالم المعاصر، ولعمق القيم التي يزعم الغرب الدفاع عنها. كما أنها لحظة فارقة في وعي الإنسان العربي، إما أن يُعيد بناء ذاته كمشروع نهضوي مقاوم، أو أن يُسلّم بانهياره النهائي. إن التحدي اليوم لا يكمن فقط في دعم فلسطين، بل في بناء وعي جديد، أخلاقي، تحرري، يعيد للعروبة معناها، ويُعيد للإنسان العربي ثقته بقدرته على الفعل والتأثير. فالسكوت لم يعد خيارًا، والحياد صار خيانة، والصراع، كما قاله الشاعر الفلسطيني محمود درويش، “ليس بين ثقافتين، بل بين ذاكرتين: ذاكرة المجزرة وذاكرة الإنسان”.
الشعب العربي الفلسطيني لا يموت فقط برصاص الاحتلال الصهيو ـ ني، بل أيضًا بصمت العالم، وتواطؤ القريب، وازدواجية المنظمات، وادعاء النخبة، وجبن السلطة، واستهتار المتحضر.
لكن رغم هذا، تُولد في فلسطين لغة جديدة، لغة الدّم الذي يكتب تاريخًا لا يمكن محوه، لغةٌ تقول إن العالم يجب أن يُعاد اختراعه، أو يُحاكم، وهنا، يبدأ السؤال الحقيقي ما الذي تبقى من إنسانيتنا؟ فإما أن نكون مع الإنسان، أو مع من يذبحه.
في قلب هذه المعركة التاريخية، نشهد مفارقة مدهشة، بينما تنتفض الجامعات الغربية في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وأستراليا، وتتوالى التظاهرات الحاشدة في العواصم الأوروبية دفاعًا عن غزة وحق الشعب الفلسطيني، يعاني العالم العربي ـ بأغلبيته ـ من صمت رسمي وشعبي يتراوح بين الحذر والخشية، وبين القمع والتجريم لأي تعبير عن التضامن، وبدل أن تكون شوارع العواصم العربية بوصلة الأمة نحو فلسطين، أصبحت قوانين “مكافحة الإرهاب” و”التحريض” و”الخطاب المعادي” سيفًا مسلطًا على رقاب من يتجرأ على الصراخ أو حتى النشر، بينما كانت الجامعات الغربية تشهد أعلى درجات التضامن، كانت هناك قوى اجتماعية أخرى تنسج خيوط المقاومة بطرق أكثر دهاءً.، هذه القوى الثلاث “العمال، الشعب، النخب” تشكل مثلث الضغط الاستراتيجي الذي يمكن أن يحول التضامن من مشاعر إلى سياسات حيث، ساهمت مقاطعة “5” منتجات رئيسية في خسائر بقيمة “200” مليون دولار للكيان المحتل “2023م”، كما أن عامل الميناء الجزائري الذي رفض تفريغ سفينة تتبع للكيان المحتل.
هذا الصمت العربي لا يمكن تفسيره فقط من منظور سياسي أو أمني، بل هو انعكاس لتراجع المشروع القومي العربي، وتآكل الهوية الجمعية، واستسلام مؤسساتنا للمنظومة العالمية النيوليبرالية التي صادرت القيم والمواقف لصالح مصالح اقتصادية وجيوسياسية آنية. لقد غاب الصوت العربي الموحد، وغاب حتى الصوت الإنساني البسيط، وبتنا نستقي معلوماتنا من الجامعات الأمريكية وليس من وزارات خارجيتنا، ومن شباب يعتصمون بخيام على الأرصفة الغربية، وليس من منابر إعلامية عربية ترزح تحت خط الإملاء. حين احتلت بغداد في نيسان “2003م”، لم يكن المشهد مجرد إسقاط لنظام أو اجتياح لعاصمة، بل كان لحظة انكسار رمزي عميقة في بنية المشروع القومي العربي بأسره، فقد مثّل العراق، قبل الغزو، آخر تمظهر لدولة وطنية تحمل على عاتقها مسؤولية أخلاقية وتاريخية تجاه القضية الفلسطينية، لا بوصفها “قضية تضامن” عابرة، بل بوصفها امتدادًا لمفهوم الذات والهوية والوحدة، ومن هنا، فإن موقف حزب البعث في العراق من دعم غير مشروط وبلا حدود، للشرعية الفلسطينية، للمقاومة الانتفاضة، لم يكن دعما خارجيا، بل كان فعلًا لتثبيت الذات العربية في مرآة نضالها التاريخي، ووسيلة لاستعادة الكرامة الجمعية في وجه التفتت والاستلاب.
لكن هذا الدعم لم يكن يرضي بعض الأنظمة التي رأت في فلسطين ورقة للتفاوض لا خطًا أحمر للوجود، فاستثمرت في “القضية” أكثر مما انتمت إليها، وبدلا عن دعم الوحدة الفلسطينية، عملت على تشجيع الانقسام وتكريس، وبنت خطابًا مزدوجًا يتقاطع ظاهريًا مع النضال، لكنه ينتهي دومًا إلى غرفة انتظار لدى القوى الكبرى، وحين دخلت الجيوش الأجنبية بغداد، دخلت معها الأنظمة العربية، رسميًا وشعبيًا، في مأزق وجودي، إذ لم يعد بإمكانها ادعاء امتلاك مشروع، ولا حتى الحفاظ على ملامح الخريطة.
لقد كانت لحظة الغزو لحظة تفكيك لا للعراق وحده، بل للمعنى القومي برمّته، حيث غابت الدولة الراعية لفكرة التحرر، وبدأنا نرى فلسطين تُستثمر لا تُحرّر، وتُباع في المؤتمرات لا تُستعاد في الخنادق. ومن هنا، فإن أحد أسباب تراجع المشروع القومي ليس فقط تأكل البنية السياسية، بل ضياع الأساس الأخلاقي الذي مثّله العراق، بوصفه مرآة تعكس ما نريد أن نكونه، لا ما أصبحنا عليه.
والملفت أن تلك التظاهرات في الغرب لا تقتصر على فئة عربية أو مسلمة، بل هي حراك أخلاقي عالمي تقوده حركات طلابية ويشارك فيه يهود ومسيحيون وبوذيون وغيرهم من الرافضين للظلم، تتحدى هذه الحركات أنظمة التعليم، وتكسر قوالب الإعلام الموجه، وتعيد تعريف القيم العالمية كالعدالة والحرية والحق، لم يكن أحد يتوقع أن تصبح “كامبريدج وستانفورد وكولومبيا” حواضن للراية الفلسطينية، وأن يرفع شباب أمريكيون غير ناطقين بالعربية صور أطفال فلسطين على صدورهم، بينما تخلو المنصات العربية الرسمية من أبسط كلمات التعزية أو الغضب.
وإذا كان الوجدان الشعبي الغربي يتحرك الآن بدافع إنساني وأخلاقي، فإن مسؤوليتنا كعرب أكبر وأكثر تعقيدًا. لأننا لا ندافع فقط عن مظلومية، بل عن قضية وجود ترتبط بتاريخ وهوية ودين ومستقبل. فلسطين ليست مجرد أرض محتلة، بل هي مرآة لضمير الأمة، وهي المعركة التي يتحدد فيها مصير مشروعنا الحضاري. فكيف لنا أن نطالب العالم بالإنصاف ونحن أول من خذل هذه القضية وأهملها؟ ويتجسد انهيار الشرعية الدولية في ثلاث مفارقات صارخة:
1. تعثر المحكمة الجنائية الدولية في تحقيقاتها لجرائم العدوان في فلسطين، بينما تسارع الزمن في قضايا مماثلة بأوروبا، وكأن الدماء لها ألوان مختلفة في موازين العدالة.
2. ازدواجية المعايير التي تجعل من معاناة الضحايا سلم أولويات متحركاً، فبينما تُنصب محاكم جرائم الحرب لضحايا أوكرانيا بين عشية وضحاها، فتظل قضية فلسطين تراوح مكانها منذ سبعة عقود في أروقة الأمم المتحدة.
3. تحول شركات التكنولوجيا الكبرى إلى شرطيين رقميين يفرضون رقابة غير مسبوقة على المحتوى الفلسطيني، حيث تم حظر أكثر من “50%” من المنشورات المؤيدة لفلسطين على المنصات الرئيسية وفق تقارير منظمة (هيومن رايتس ووتش ـ 2023م”، في حين تترك المحتوى الصهيو ـ ني المتطرف يعبث بحقائق التاريخ والجغرافيا.
هذه المفارقات الثلاث لا تعكس فشلاً قانونياً فحسب، بل تكشف عن نظام عالمي معتلّ، يصنّف الضحايا حسب هوياتهم لا حسب معاناتهم، ويقيس الجرائم ببوصلة المصالح لا بميزان العدل.
إن التراجع العربي في نصرة فلسطين لم يكن يومًا تراجعًا شعبيًا أصيلًا، بل هو نتاج سياسات تكميم ممنهج وتطبيع مؤسسي وقوانين تجرّم كل محاولة تضامن. لقد باتت بعض الأنظمة تعتبر أن الوقوف مع فلسطين تهديدًا للأمن القومي، في مفارقة تاريخية تُظهر مدى انقلاب المفاهيم. والأدهى من ذلك أن بعض الحكومات العربية أصبحت تمارس نوعًا من الحياد البارد، وكأن فلسطين شأناً خارجياً لا يعنيها، بينما قصف مستشفى الأمل كان نموذجًا للعنف الممنهج، وأن “42” طفلاً فقدوا في غرفة واحدة، و”8″ أطباء استشهدوا أثناء العمليات، و تدك الغارات الصهيو ـ نية منازل الأطفال والمستشفيات والمدارس، وتتجلى آليات كبح التضامن المؤسسي في عدة مستويات:
1. وزارات التعليم: حيث تم إفراغ المناهج الدراسية من المضامين الوطنية للقضية الفلسطينية، إما عبر حذفها كلياً أو اختزالها في سياقات تاريخية بعيدة عن الواقع الراهن.
2. اتحادات الصحفيين: التي مارست سياسة فرض “خطاب الاعتدال” عبر آليات غير مباشرة، مثل:
أ. وضع معايير مهنية فضفاضة تُستخدم لاستبعاد المواد الجذرية.
ب. منح الأولوية للتغطيات “المتوازنة” التي تعادل بين الجلاد والضحية.
3. المؤسسات الدينية: حيث تم توظيف خطب الجمعة والمنابر الدينية لخدمة أجندة التطبيع عبر:
أ. التركيز على “السلام الديني” مع تجنب أي خطاب تحريضي.
ب. اختيار نصوص وأحاديث تُجنب انتقاد الكيان الصهيوني مباشرة.
4. النقابات المهنية: التي تحولت من أدوات مقاومة إلى أدوات قمع عبر:
أ. منع أي نشاط سياسي تحت ذرائع “الحفاظ على الطابع المهني”.
ب. فرض عقوبات على الأعضاء الذين ينظمون فعاليات تضامنية.
في مقابل هذا الانهيار الرسمي، يبرز اليوم سؤال جوهري: كيف يمكن أن نعيد بناء موقف قومي عربي تجاه فلسطين؟ وهل هناك إمكانية لصياغة مشروع فكري وسياسي جديد يتجاوز المواقف التقليدية والخطابات النمطية؟ الجواب يتطلب أولًا الاعتراف بأن القضية الفلسطينية لم تعد قضية شعب محتل فقط، بل قضية هوية عربية مهددة، وقضية شرعية أنظمة، ومصداقية نخبة، ووحدة مصير، فإعادة إحياء هذه الرؤية تتطلب ربط القضية الفلسطينية بالمصالح الكبرى للأمة العربية، وبقضايا الحرية والكرامة والعدالة والتنمية.
لا بد من تجديد الفهم القومي للقضية الفلسطينية باعتبارها جوهر مشروع النهضة العربية. كما ينبغي ربطها بالحريات العامة داخل المجتمعات العربية، وبمناهج التعليم، وبأجهزة الإعلام، وبسياسات التمويل، وببناء تحالفات فكرية جديدة تتجاوز الانقسامات الأيديولوجية والمذهبية. كما أن من الضروري تفعيل الدور الشعبي، وتمكين المجتمع المدني، وإزالة القوانين التي تُجرّم التضامن، بل وتشجيع التعبير الحرّ كجزء من منظومة القيم التي تحصّن المجتمع ضد الاستلاب والانقسام.
الاحتجاجات الغربية المندلعة ضد العدوان على فلسطين، رغم بعدها الجغرافي والسياسي، تقدم للعرب درسًا عمليًا في القوة الناعمة والتضامن الأخلاقي، لقد نجحت تلك الحركات في إعادة تعريف الصراع، وفضح ازدواجية المعايير الغربية، وكسب تعاطف الملايين. والأهم من ذلك أنها أثبتت أن الرأي العام لا يُصنع فقط في غرف الأخبار، بل في الشوارع والساحات والحرم الجامعي، وهذا ما يجب أن تستعيده الأمة العربية، الشارع كفاعل، والمثقف كقائد، والجامعة كمصدر شرعية، والحرية كأداة كفاح.
إن الرؤية المستقبلية للقضية الفلسطينية لن تكون مثمرة إن ظلت حبيسة الخطاب العاطفي أو النخب المعزولة، بل يجب أن تكون شاملة، عقلانية، استراتيجية، وتنبع من صميم الإرادة الجماعية، علينا أن نخرج من دوامة ردّ الفعل إلى المبادرة، وأن نؤمن أن قضية فلسطين ليست عبئًا بل فرصة لإعادة توحيد الصف العربي على أرضية أخلاقية وتاريخية وثقافية، وحين تكون فلسطين هي البوصلة، يصبح الطريق أوضح، وتعود للكرامة معناها، وللعروبة مضمونها.
بهذا الفهم الجديد، يمكن أن نعيد بناء الجبهة الفكرية للقضية الفلسطينية، ونكسر جدار الصمت، ونؤسس لنهضة عربية تبدأ من فلسطين وتمتد إلى كل عاصمة تنبض بالحياة. لقد علمتنا فلسطين ـ كما دائمًا ـ أن الهزيمة ليست في السلاح، بل في التخلي، وأن الكرامة لا تُمنح، بل تُنتزع، وأن الصمت في حضرة الدم خيانة، وأن فلسطين، بكل جراحها، هي مفتاح نهضتنا ووحدتنا ومستقبلنا، إضافةً إلى اقتراح آليات عملية، تتمثل في: إنشاء منصة عربية موحدة لتوثيق الانتهاكات، وشبكة جامعية عربية للدراسات الفلسطينية، بالإضافة الى تأسيس صندوق قومي لتمويل المقاومة القانونية الدولية.
وفي قلب هذا التحليل، لا بد من وقفة نقدية جريئة لأوجه القصور في الخطاب الفلسطيني ذاته، والتي أسهمت في تعميق الأزمة:
1. فشل تطوير أدوات ضغط اقتصادية فعّالة: فبينما تمتلك الدول الداعمة للاحتلال أدوات مثل العقوبات الاقتصادية وحظر التكنولوجيا، ظل الجانب الفلسطيني يعتمد على المساعدات الدولية دون بناء اقتصاد مقاوم قادر على فرض كلفة على الاحتلال.
2. غياب استراتيجية اتصال عالمية متماسكة: فشل الخطاب الرسمي في توظيف الأدوات الحديثة “مثل منصات التواصل الرقمي، التحالفات مع منظمات المجتمع المدني العالمية” لاختراق الرواية الصهيونية المهيمنة، بينما نجح الكيان الصهيوني في تحويل صراع وجود إلى “نزاع حدودي”.
3. جمود أساليب كسب التأييد الدولي: حيث ظلت الدبلوماسية الفلسطينية أسيرة الخطابات التقليدية في المحافل الدولية، دون استثمار كافٍ في:
أ. بناء تحالفات مع حركات العدالة العالمية “كالمناهضة للعنصرية، حقوق الشعوب الأصلية”.
ب. توظيف الآليات القانونية الدولية “كملاحقة الشركات الداعمة للاستيطان”.
هذه الثغرات لا تنفي شرعية القضية، لكنها تُظهر الحاجة إلى مراجعة جذرية للأدوات، خاصة في ظل تحوّل العالم إلى ساحة معركة جديدة تعتمد على القوة الناعمة قبل الصلبة.
فلسطين ليست اختبارًا لأخلاقيات العالم فحسب، بل مقياسًا لجدية مشروعنا الحضاري، السؤال ليس كيف ندعم فلسطين، بل كيف نعيد اكتشاف أنفسنا من خلالها، في كل طفل يُقتل في فلسطين، يُقتل جزء من إنسانيتنا الجماعية، لكن الدماء التي تسيل اليوم ليست دليل هزيمة، بل حبر يكتب فصلًا جديدًا من تاريخ المقاومة: مقاومة النسيان، مقاومة اليأس، مقاومة انهيار المشروع العربي برمته، لن ننقذ فلسطين إلا بأن نكون جديرين بها.
Leave a Reply