
يكشف العدوان الغاشم على شعب فلسطين، وردود أفعاله الجماهيرية على نطاق العالم، عن لحظةٍ مفصليةٍ في التاريخ العربي والإنساني؛ لم تعد فيها القضية الفلسطينية مجرد مسألة احتلال أرض وتزوير للتاريخ، بل تحوّلت إلى مرآة تعكس هشاشة النظام الدولي والإقليمي العربي، وانكشاف عجزهما البنيوي عن بناء عالم تتسيده العدالة، وتصان فيه حقوق الإنسان والأمم والشعوب، ومشروعٍ قوميٍ أخلاقيٍ وإنسانيٍ قادر على مواجهة تحديات اللحظة التاريخية.
فالمجازر المرتكبة في فلسطين، وتطاول أمد العدوان غير المسبوق، والمواقف الأمريكية الداعمة مطلقًا، والغربية المتواطئة أو الصامتة، بالتوازي مع ضعف الموقف والخطاب الرسمي العربي، وتغوّل منطق التطبيع، ومصادرة حق التعبير والتضييق على الحريات؛ كلها مؤشرات صارخة على انحلال المعايير الأخلاقية، وتفكك البنى السياسية التي يُفترض بها أن تكون الحاضنة الطبيعية لقضايا الأمة المصيرية.
إن طريقة تعاطي العالم – ومعه قطاعات واسعة من الأنظمة العربية – مع عدوان الاحتلال على فلسطين وشعبها، بما في ذلك بنيتها التحتية؛ لم تعد محصورة في إطار نزاع تقليدي مع الاحتلال، بل باتت اختبارًا صارخًا لمصداقية القيم التي تُرفع في المحافل: العدالة، الحرية، السلام، والشرعية.
فمن مجازر موثّقة بالصوت والصورة، إلى صمت الحكومات، وشلل المنظمات الدولية والإقليمية، وتجريم كل تعبير عن التضامن في الجامعات والمؤسسات، وإعاقة قوافل ونشاط كسر الحصار، تبدو القضية وقد تجاوزت حدود الجغرافيا والسياسة والقانون، لتتحوّل إلى عدوان على الذاكرة، على الضمير، وعلى جوهر الإنسان ذاته وحقه في الحياة.
وفي المقابل، ينبثق الحراك الشعبي العالمي، لا سيما في الجامعات الأمريكية والغربية، وضمن الأوساط الأكاديمية والثقافية والإعلامية والفنية والرياضية، والمؤسسات النيابية والتشريعية… إلخ، كعلامةٍ مضيئةٍ في زمن العتمة.
فالمظاهرات الطلابية، والاحتجاجات الثقافية، والمواقف النبيلة لعدد من الأكاديميين والإعلاميين ونوّاب البرلمانات، أعادت تعريف المشهد الأخلاقي للصراع وأدوات المشاركة في خوضه، وأحرجت خطابًا عربيًا رسميًا فقد حتى لغة الاحتجاج، ناهيك عن الفعل.
لقد تحوّلت فلسطين، في هذه اللحظة، إلى مفصل حضاري عالمي ولولب استنهاض، تُفرز فيه مواقف القوى السياسية والاجتماعية، والمؤسسات، والأفراد: بين من يقف مع الإنسان والحقيقة، ومن يبرر سحقه وتزييفها.
ومن جانبٍ آخر، لا يمكن التغاضي عن إخفاقات البنية السياسية الفلسطينية في تجديد أدواتها، كما لا يمكن تجاهل عدم توظيف القوى الشعبية الجماهيرية العربية لهذه اللحظة التاريخية، قبل فوات أوانها، لبناء موقف موحد يتجاوز المصالح الفئوية والقطرية، ويستلهم من الحراك العالمي (نصرة فلسطين) طاقةً جديدة.
وما من شك أن ما يتعرض له شعب فلسطين، ليس بمعزل عن لحظة غزو العراق عام 2003 واحتلاله وإسقاط نظامه الوطني، الذي – إضافة إلى دعمه غير المشروط للشرعية الفلسطينية ووحدة النضال الفلسطيني – تمكن من إنجاز مشروع وطني نهضوي بآفاقه القومية، أحدث ولأول مرة في التاريخ العربي الحديث ميزان قوى لمصلحة الأمة العربية وقضيتها المركزية.
لقد خلخل احتلال العراق، المرتبط بالاستراتيجية الأمريكية لإعادة تشكيل المنطقة، موازين القوى، وفتح الباب على مصراعيه أمام حالة الفراغ التي نشطت القوى التوسعية المذهبية على ملئه، بتغاضٍ أمريكي، وكمكافأة لمقولة: “لولا إيران لما تمكنت أمريكا من غزو أفغانستان واحتلال العراق”، وامتد ذلك النشاط إلى فلسطين.
في ضوء هذه المعطيات، تتبلور الحاجة إلى إعادة بناء الرؤية القومية تجاه فلسطين، بوصفها مركزًا حيويًا لمعركة الوجود والوحدة والنهضة العربية. هذه الرؤية الجديدة لا بد أن تكون علمية، أخلاقية، وشاملة، تربط بين مقاومة الاحتلال وبناء منظومات التعليم والإعلام والتثقيف، وتنظيم القوى الشعبية والمجتمع المدني، وتنمية الوعي بأهمية التنظيم وتوسيع أطره، قوميًا وقطريًا.
فلسطين ليست فقط قضية تحرر وطني وقومي؛ بل أداة لقياس نهوض المشروع العربي القومي التحرري، ومهماز الضمير الإنساني للتحرر من التمييز والفصل العنصري والهيمنة، ومنطق الغزو والاحتلال.
وهي البوصلة التي تحدد مسار حشد القوى الحية على طريق النهوض والتحرر.
بذل أقصى الطاقات لوقف العدوان على شعب فلسطين، وإيصال الدعم والإسناد، وإعادة الإعمار، أولوية قومية، وطنية، إنسانية، فردية وجماعية.
فالسكوت في زمن الذبح، خيانة، والتخاذل في لحظة الموقف، تلاشي.
وعلى قوى الأمة الحية وأحرار العالم الإمساك بزمام الفعل والمبادرة من بوابة فلسطين، وتحشيد جلّ طاقاتهم في سبيلها، بعد أن أصبحت القضية: نكون أو لا نكون.
حزب البعث العربي الاشتراكي (الأصل)
كلمة الهدف
2025/6/16
Leave a Reply