
تأتي سلسلة مقالات الجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير في سياق السعي لتكوين منصة وطنية تهدف إلى توحيد قوى المجتمع الحية من أجل تحقيق السلام العادل، والعدالة الاجتماعية، والوحدة الوطنية على أسس ديمقراطية حقيقية.
المقال الختامي
تحالف انتخابي للجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير: نحو استكمال مسار التحول الديمقراطي
أ. طارق عبد اللطيف أبوعكرمة أ. ماجد الغوث
مقدمة: بعد انتهاء الفترة الانتقالية، ستواجه القوى الديمقراطية والتقدمية تحديًا حقيقيًا في ضمان استمرارية مسار الإصلاح وتحقيق الأهداف التي لم تكتمل خلال المرحلة الانتقالية. في ظل هذا الواقع، يصبح من الضروري بحث إمكانية تشكيل تحالف انتخابي يجمع القوى السياسية والاجتماعية الديمقراطية تحت راية واحدة، بهدف حماية مكتسبات الثورة وضمان الانتقال إلى حكم ديمقراطي مستدام.
لقد أثبتت التجربة السودانية، كما غيرها من تجارب الانتقال في دول الجنوب، أن غياب التنسيق الانتخابي بين القوى الديمقراطية غالبًا ما يؤدي إلى فشل التغيير السياسي أو تحجيمه لصالح قوى أكثر تنظيمًا وارتباطًا بالمصالح القديمة. إن التحالف الانتخابي ليس فقط تكتيكًا ظرفيًا، بل هو أداة استراتيجية لإعادة هندسة التوازنات السياسية، وتعزيز الفاعلية الجماعية للقوى المدنية في مواجهة أدوات الثورة المضادة
يهدف هذا المقترح إلى استكشاف جدوى وآليات تكوين تحالف انتخابي للجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير، يضمن نجاح القوى الديمقراطية في انتخابات ما بعد الفترة الانتقالية، ويحول دون عودة قوى الردة والاستبداد إلى السلطة.
أولًا: مبررات وأهمية تشكيل تحالف انتخابي:
1. منع تفتيت الأصوات الديمقراطية:
أ. غالبًا ما تؤدي المنافسة بين القوى الديمقراطية إلى تشتت الأصوات، مما يمنح القوى المحافظة والرجعية فرصة للعودة إلى الحكم.
ب. تشكيل تحالف انتخابي يوحد الجهود ويضمن الفوز بأغلبية برلمانية قادرة على تنفيذ برامج الإصلاح.
2. استكمال أهداف الفترة الانتقالية
أ. بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية قد لا تكتمل خلال الفترة الانتقالية.
ب. يحتاج السودان إلى تحالف قوي يتبنى أجندة التغيير الديمقراطي، ويعمل على تحقيق ما لم يتم إنجازه.
3. . حماية الديمقراطية من الردة السياسية:
أ. بعد الفترات الانتقالية، غالبًا ما تحاول القوى المضادة للديمقراطية إعادة إنتاج حكم استبدادي عبر الانتخابات.
ب. تحالف الجبهة سيضمن بقاء السلطة في يد القوى المؤمنة بالتحول الديمقراطي، ويمنع عودة الفلول والديكتاتورية.
4. تعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي:
أ. فوز تحالف ديمقراطي في الانتخابات سيضمن استمرار سياسات الإصلاح الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.
ب. يوفر التحالف حكومة ذات قاعدة شعبية واسعة، مما يعزز الاستقرار ويجذب الاستثمارات الدولية.
ثانيًا: مبادئ وأسس التحالف الانتخابي: يشمل التحالف المقترح كافة المكونات السياسية والمدنية التي شاركت في الحراك الديمقراطي، من أحزاب تقدمية، وحركات شبابية، وتنظيمات نسوية، ولجان مقاومة، ونقابات ديمقراطية. ويُستثنى من هذا الإطار القوى التي شاركت في الانقلابات أو دعمت نظم الاستبداد أو ارتبطت بمشاريع دولية معادية للتحول المدني. وتتمثل المبادئ في التالي:
1. الالتزام بالديمقراطية والتعددية السياسية:
أ. يجب أن يكون التحالف مفتوحًا لجميع القوى الديمقراطية، دون فرض إقصاء أيديولوجي.
ب. يجب الالتزام بمبدأ التداول السلمي للسلطة، والاعتراف بنتائج الانتخابات.
2. الاتفاق على برنامج انتخابي مشترك: وضع برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي موحد، يتضمن:
أ. استكمال إصلاحات العدالة الانتقالية.
ب. تعزيز الاقتصاد الوطني وتقليل التبعية للخارج.
ت. دعم المؤسسات الديمقراطية وإصلاح النظام القضائي.
3. . آلية لاختيار المرشحين وتوزيع المقاعد:
أ. تجنب الخلافات عبر اعتماد معايير واضحة لاختيار المرشحين، بما يضمن تمثيلًا عادلًا لجميع مكونات التحالف.
ب. توزيع المقاعد البرلمانية وفق الثقل السياسي لكل مكون داخل الجبهة، مع مراعاة التنوع الجغرافي والاجتماعي.
4. الالتزام بمواصلة النضال من أجل أهداف الثورة:
أ. عدم تقديم تنازلات للقوى التي تسعى لإجهاض التحول الديمقراطي.
ب. الاستمرار في الدفاع عن القضايا الجوهرية مثل العدالة الانتقالية وإصلاح المؤسسات.
ثالثًا: آليات تشكيل التحالف الانتخابي:
1. المشاورات بين القوى الديمقراطية:
أ. عقد مؤتمر تحضيري يجمع القوى الديمقراطية للتوافق على تشكيل التحالف.
ب. تحديد الإطار السياسي والقانوني للتحالف، وآليات عمله خلال الانتخابات وبعدها.
2. إنشاء لجنة تنسيقية لإدارة التحالف:
أ. تكليف لجنة من ممثلي الأحزاب والنقابات والمنظمات الديمقراطية بإدارة التحالف.
ب. وضع آليات لحل الخلافات الداخلية وضمان وحدة الصف.
3. التفاوض على مرشحي التحالف في الدوائر الانتخابية:
أ. تبني نظام التمثيل النسبي والقوائم المشتركة، لضمان عدم المنافسة بين أعضاء التحالف في نفس الدوائر.
ب. منح الأولوية للمرشحين الأكثر قبولًا جماهيريًا، لضمان فرص أكبر للفوز.
4. وضع خطة إعلامية موحدة:
أ. إطلاق حملة إعلامية موحدة تعزز فكرة التحالف وأهدافه.
ب. تقديم برنامج انتخابي واضح للمواطنين، يبرز مزايا التحالف وأهمية التصويت له.
5. الاستفادة من خبرات التحالفات الانتخابية الناجحة داخلياَ:
أ. تجربة انتخابات عام (1986) في دائرة الصحافة، التي شكلت علامة فارقة، حيث نجح ممثل قوى الانتفاضة في الفوز بالمقعد على حساب مرشح القوى التقليدية والردة. هذه النتيجة لم تكن فقط فوزًا انتخابيًا، بل كانت تعبيرًا عن قدرة القوى الديمقراطية على توحيد صفوفها في لحظة تاريخية فارقة، وتحقيق اختراق انتخابي ذي دلالة رمزية وسياسية كبيرة.
ب. تجربة التحالف الطلابي في عام (1996) في إطار (الوحدة الطلابية)، التي أعادت تشكيل المشهد داخل الجامعات ومؤسسات التعليم العالي. هذا التحالف، الذي ضم تنظيمات طلابية من مختلف قوى المعارضة، تمكن من زعزعة سيطرة النظام داخل الحرم الجامعي، وخلق واقع طلابي جديد منحاز للديمقراطية والحقوق. ولم يتوقف أثر هذا التحالف عند المستوى الطلابي فقط، بل امتد ليؤثر في بنية التفكير والقرارات داخل قيادات الأحزاب السياسية التي مثلتها تلك التنظيمات، وأسهم بشكل مباشر في تعبئة القواعد نحو استكمال مهام المقاومة السياسية التي أدّت لاحقًا إلى تحولات كبرى في سياق النضال ضد نظام (30 يونيو 1989).
6. الاستفادة من خبرات التحالفات الانتخابية الناجحة عربياً وعالميًا: دراسة تجارب التحالفات الديمقراطية في دول أخرى، مثل جنوب إفريقيا وتونس، للاستفادة من استراتيجياتها. وقد نجحت عدة دول في تشكيل تحالفات انتخابية ذات طبيعة انتقالية مثل:
أ. تحالف الاتحاد الديمقراطي في جنوب إفريقيا بقيادة المؤتمر الوطني، والذي وحّد القوى المناهضة للأبارتايد في الانتخابات الأولى بعد التحول.
ب. تجربة (الرباعية الديمقراطية) في تونس، والتي رغم أنها لم تكن تحالفًا انتخابيًا تقليديًا، نجحت في بناء تفاهمات دستورية عميقة مهدت لانتقال سلمي للسلطة. يمكن لهذه النماذج أن تُلهم الجبهة السودانية في كيفية بناء تحالف يشمل المجتمع المدني والنقابات إلى جانب الأحزاب.
ت. تجربة الأردن، شكّل حزب البعث العربي الاشتراكي تحالفات ناجحة في النقابات العمالية مع قوى ديمقراطية أخرى. ساهم هذا التحالف في تعزيز الدور النقابي الوطني والدفاع عن الحقوق العمالية. كما استطاع التحالف كسر الطوق المفروض على العمل الديمقراطي داخل النقابات.
ث. تجربة لبنان، حقق حزب البعث العربي الاشتراكي تنسيقاً موحداً بين منظماته المختلفة داخل البلاد. نسق مع قوى يسارية وتقدمية لتعزيز الموقف السياسي في القضايا الوطنية. عزز الحضور الجماهيري والسياسي في بيئة سياسية مركبة.
هذه التجارب تؤكد أن التحالفات الديمقراطية ليست مجرد ترتيبات انتخابية، بل أدوات استراتيجية لإعادة بناء موازين القوى لصالح مشروع وطني ديمقراطي جامع.
7. إشراك الشباب والنساء في قيادة الحملة الانتخابية:
أ. إنشاء لجان شبابية داخل التحالف تتولى التواصل مع لجان المقاومة، وتحويل الحماس الثوري إلى طاقة انتخابية منظمة.
ب. ب. الالتزام بنسبة تمثيل لا تقل عن 40% للنساء والشباب في قوائم التحالف، باعتبارهم العمود الفقري لأي تحول ديمقراطي حقيقي.
رابعًا: الإطار القانوني والمؤسسي للتحالف الانتخابي:
1. ضرورة تحديد الوضع القانوني للتحالف الانتخابي، وهل سيتم تسجيله كائتلاف رسمي وفق قانون الانتخابات السوداني (إذا وُجد)، أم سيتم تقديم مرشحين ضمن قوائم حزبية قائمة؟
2. اقتراح إعداد وثيقة تأسيسية يتم التوقيع عليها من قبل جميع الأطراف المشاركة، تتضمن المبادئ الحاكمة وآلية الالتزام والانفصال والشروط المتبادلة.
3. الاستعانة بخبراء قانونيين لإعداد نموذج نظام داخلي للتحالف، يحدد مهامه، بنيته، وآليات اتخاذ القرار داخله.
خامسًا: تحديات التحالف الانتخابي وسبل التغلب عليها:
1. الخلافات السياسية بين مكونات الجبهة:
أ. وضع آلية حوار ديمقراطي لحل النزاعات الداخلية.
ب. الالتزام ببرنامج موحد يمنع الانقسامات خلال الانتخابات.
2. ضعف التمويل للحملة الانتخابية:
أ. إطلاق حملة تمويل جماعي تستهدف السودانيين في الداخل والخارج.
ب. الاستفادة من الدعم اللوجستي الذي توفره النقابات ومنظمات المجتمع المدني.
3. محاولات قوى الردة لإضعاف التحالف:
أ. تبني إستراتيجية دفاعية ضد محاولات التشويه الإعلامي.
ب. التركيز على التواصل المباشر مع المواطنين لشرح أهداف التحالف.
4. ضعف الوعي الانتخابي بين المواطنين:
أ. تنظيم حملات توعية سياسية حول أهمية المشاركة في الانتخابات.
ب. الاستفادة من لجان المقاومة والنقابات في تعبئة الجماهير.
سادسًا: السيناريوهات المتوقعة للتحالف بعد الانتخابات:
1. الفوز بأغلبية برلمانية، يمكن للتحالف تشكيل حكومة انتقالية ديمقراطية، تواصل استكمال برنامج الإصلاح.
2. تحقيق تمثيل قوي في البرلمان دون أغلبية مطلقة، يكون العمل على بناء تحالفات أوسع داخل البرلمان لضمان تمرير الإصلاحات المطلوبة.
3. مواجهة محاولات الانقلاب على الديمقراطية، في حالة محاولة أي جهة الالتفاف على نتائج الانتخابات، يجب أن يكون التحالف مستعدًا لاستخدام الوسائل السلمية للدفاع عن الديمقراطية.
الخاتمة:
يعتبر تكوين تحالف انتخابي للجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير خطوة ضرورية لضمان عدم تبديد جهود القوى الديمقراطية، ولمنع عودة قوى الفساد والاستبداد عبر صناديق الاقتراع.
إذا نجحت الجبهة في بناء تحالف قوي، فستتمكن من تشكيل حكومة ديمقراطية تحافظ على مكتسبات الثورة، وتحقق أهداف الفترة الانتقالية، وتبني سودانًا جديدًا قائمًا على الحرية، العدالة، والمساواة.
إن التحالف الانتخابي المقترح ليس فقط أداة سياسية، بل تعبير عن مسؤولية تاريخية تقع على عاتق جيلٍ نذر نفسه لحماية الحلم السوداني بالتغيير. فإما أن تتوحد القوى الديمقراطية خلف مشروع وطني جامع، أو تتكرر المأساة في دورة جديدة من الردة والانكسار.
خاتمة السلسلة:
في ختام هذه السلسلة، التي امتدت عبر أحد عشر مقالًا، نحاول أن نحزم الأسئلة الكبرى في حزمة واحدة:
هل سننتظر مسارح الخراب تتكرر؟ أم نبادر بوعي جديد، وخيال منظم، لتأسيس تحالف واسع يعبّر عن القوى الحية في هذا الوطن؟
لقد بيّنا في هذه المقالة الأخيرة أن تشكيل تحالف انتخابي للجبهة الشعبية العريضة للديمقراطية والتغيير ليس مجرد عملية تقنية لإدارة الانتخابات، بل هو تتويج لروح المقاومة السودانية، وتحصين لإنجازات انتفاضة ديسمبر الثورية، وتمهيد لطريق جديد تستعيد فيه قوى التغيير زمام المبادرة.
ليس المطلوب اتفاقًا تامًا في الرأي، بل اتفاقًا على المبادئ الكبرى، وعلى حق هذا الشعب في أن يُحكم بإرادته، لا بالسلاح ولا بالوصاية.
ندعو القوى الديمقراطية، أحزابًا، منظمات، لجانًا، نقابات، أفرادًا، إلى طرح الأسئلة الجادة، والتفاعل مع هذا المشروع بصدق، نقدًا وتطويرًا ومشاركة. فالبديل للاستقطاب والتحلل والانفراد هو هذا: تحالف وطني ديمقراطي يفتح نوافذ الأمل، ويمنح السودانيين فرصة ثانية لا ينبغي أن تضيع.
فلنبدأ… ليس من أجل انتخابات قادمة فقط، بل من أجل سودان يستحق الحياة.
Leave a Reply